عن فلسفة الحكم في الأردن
لم يكن عبور النظام الأردني محطّاتٍ مفصليةً حاسمةً في تاريخه، ونجاحه في اجتيار منعرجات عديدة، والتماسك والاستمرارية والتطوير والبناء، برغم محدودية الموارد، لم يكن ذلك كلّه مصادفةً أو من غير فلسفة حكمٍ تغطس خلف السياسات والقرارات والمواقف، ونمط خاص من العلاقة بين القيادة والشارع ..
في كتاب "زيد بن شاكر: من السلاح إلى الانفتاح" تروي المؤلفة نوزاد الساطي (زوجة زيد بن شاكر؛ الذي كان قائداً للجيش الأردني فترة طويلة ورئيساً للوزراء، وإحدى أقرب الشخصيات سياسياً وإنسانياً للملك الراحل الحسين بن طلال) عن فاضل فهيد (كان قائداً عسكرياً ورئيساً لجهاز الأمن العام لاحقاً) أنّه في ذروة أحداث 1970 كانت الترجيحات الغربية والأميركية في الأغلب ترجّح سقوط الدولة بيد الفصائل الفلسطينية، وقد أصبح 80% من عمّان والمحافظات الشمالية خارج السيطرة. ومن النكت التي ترويها مؤلفة الكتاب أنّ الملك سأل الشريف زيد بن شاكر عن الموقف، بالإنكليزية، وبالمصطلح العسكري الفني (Situation)، فأجابه بأنّ السوريين دخلوا من الشمال وأنّ الفصائل أعلنت المنطقة الشمالية منطقة محرّرة، وأنّ هنالك تحركات للقوات العراقية الموجودة في الأردن، فقاطعه الملك قائلاً: This is Shituation!
المقصود أنّ الأردن مرّ بمراحل ولحظاتٍ كان فيها النظام والاستقرار السياسي على الحافّة. وهنالك مواقف وقصص عديدة شبيهة، لكن فلسفة انبثقت عنها رؤية، وترجمت من خلال السياسات والمواقف التي كانت مفهومة لناسٍ كثيرين، والأهم أنّ هنالك فريقاً سياسياً صلباً قوياً متنوعاً حول الملك، سواء كان في مواقع رسمية أو غير رسمية!
من أبرز تلك الشخصيات الراحل عدنان أبو عودة، الذي كان قد عمل في نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات محللاً سياسياً في جهاز المخابرات العامة، وكان الملك الحسين قد تعرّف عليه قبل عامين، حين كان في زيارة للمخابرات، وطلب تقييماً للأوضاع، فقال له أبو عودة: "إنني لا أستبعد أن يهتز عرشك بعد عامين"، وهي كلمة أغضبت الملك في حينه، لكنّه بدلاً من أن ينهي مسيرة قائلها الحكومية، قام، من دون علم أبو عودة نفسه، بتجهيزه وتهيئته في دورات تدريبية، وبمتابعة عن بعد من الملك شخصياً، للمرحلة التالية، وهو ما حدث فعلاً عندما طلب الملك وصفي التل (لم يكن في النظام رسمياً، لكنّه كان موجوداً دائماً بالقرب من الملك في التفكير والتخطيط وبناء الرؤية) وأخبره بأنّ أبو عودة سيكون وزيراً في الحكومة العسكرية، وأنّ المطلوب "أن نهمر عليهم" (على الفصائل؛ والمقصود استعادة القانون والدولة بإظهار القوة، ومحاولة تجنّب المواجهات العسكرية قدر الإمكان).
وبمناسبة الحديث عن الراحل، عدنان أبو عودة؛ فقد كان يرى أنّ نجاح الملك الحسين في تلك الامتحانات العسيرة تمثّل بوجود فريقٍ قويٍّ ومتماسكٍ يقود الدولة، ويمتلك تصوّراً للتعامل مع الأحداث. وكان أبو عودة يرى أنّ تعامل الملك الحسين كان في السبعينيات مع المنظمات، التي شكلت تحدّياً للدولة والقانون والأمن، بينما التحدّي اليوم أكثر تعقيداً وخطورة لأنّه ليس خارجياً، بل هو داخلي وملتبس.
تشكل فريق الملك الحسين في محطة 1970 من وصفي التل وزيد بن شاكر وعدنان أبو عودة ونذير رشيد وحابس المجالي. ولا يزال كثيرون يذكرون كيف أنّ الملك أطلق سراح المعتقلين السياسيين في 1965، وذهب رئيس الوزراء حينها، وصفي التل، بنفسه لإطلاق سراحهم من السجن، وخطب خطبة حماسية. وكان الملك قد بدأ في الستينيات بالعفو عن السجناء السياسيين وإعادة إدماجهم في النظام السياسي، بالرغم من أنّ بينهم من كان قد تورّط في محاولة قتل الملك شخصياً والانقلاب عليه.
استحضار هذا التاريخ اليوم للتأكيد أنّ ما تحتاجه الدولة اليوم هو النخبة والفريق القوي الذي يقود الدولة ويدرك فلسفة الحكم في الأردن، ويترجمها من خلال الرؤية والسياسات، ولديه القدرة على الاشتباك مع الرأي العام والشارع، ويمتلك لغة حديثٍ واضحة مع المواطنين، وهي المهمة رقم واحد للخروج من حالة عدم اليقين وأزمة الثقة الخطيرة، والتعامل مع التحدّيات المقبلة على الصعيدين الداخلي والخارجي، لعام سيكون صعباً وحاسماً في تاريخ الدولة.