عن كأس العرب وفوز الجزائر
أسدل الستار يوم 18 ديسمبر/ كانون الأول في الدوحة على الدورة العاشرة من بطولة كأس العرب لكرة القدم. لعل ما ميزها، بالإضافة إلى ارتفاع عدد الدول المشاركة إلى 16 فريقا، وتميز الملاعب والخدمات والتنظيم، والإقبال الجماهيري الكبير، إقامتها أول مرة تحت إشراف الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، لتعرف البطولة عهداً جديداً، يضمن استمرارها، وهو ما دعا إليه رئيس "فيفا"، جياني إنفانتينو، فبطولة العرب لكرة القدم التي انطلقت سنة 1963 من لبنان لم تنتظم دوريا، قبل ميلاد الاتحاد العربي لكرة القدم في طرابلس (ليبيا) سنة 1974 وبعده، لتلعب الأحداث السياسية التي عرفتها بعض دول المنطقة في فترات مختلفة، وغياب راع رسمي، بل حتى طبيعة العلاقات العربية - العربية في إلغاء العديد من دوراتها، لتغيب دورات عدة، ولتفشل بذلك المؤسسات الإقليمية غير الرسمية، على غرار نظيراتها الرسمية، في إقامة مسابقات رياضية متواضعة وتوفير المتعة لجماهير المنطقة.
هل ستدفع نجاحات الدورة العاشرة لكأس العرب التي انتظمت في قطر في فتح عهد جديد لمستقبل كأس العرب لكرة القدم؟ هذا ما تتمنّاه الجماهير العربية للعرس الكروي العربي، متناسية همومها وتخوفاتها الحياتية ولو فترة وجيزة. ولعل ما زاد من نجاحات هذه الدورة الروح الرياضية العالية التي تحلّى بها اللاعبون المحليون العرب الذين نشطوا هذه الدورة، فاللاعبون العرب، والذين يمثلون مختلف مكونات المجتمعات العربية، عبّروا، بعفوية، من دون أن ينجرّوا وراء التصريحات غير المسؤولة، عن عمق الروابط التي تجمع الشعوب العربية.
أبعدت طبيعة العمل السياسي السائد اليوم في البلاد الجزائريين عن المشاركة في العمل السياسي ومختلف مظاهره
وشهدت الدورة لأول مرة فوز الجزائر، بعد مسيرة متميزة في هذه الدورة، ليستحق "محاربو الصحراء" لقب أبطال العرب عن جدارة، وليضاف هذا التتويج إلى نجاحات الكرة الجزائرية، وخصوصا تتويجها سنة 2019 بكأس أفريقيا للأمم. وليتربّع محاربو الصحراء على الكرة العربية والإفريقية معا. ولعل ما يجمع بين محاربي الصحراء الذين فازوا بكأس إفريقيا ومن فازوا بكأس العرب وجود غالبيتهم في الخارج، فهل فرحة الجزائريين مشروطة بالخارج؟
ما إن أعلن الحكم نهاية مباراة الختام مع منتخب تونس، حتى خرج الجزائريون بكل عفوية في مختلف الولايات والبلديات، بل وحتى خارج الجزائر، للتعبير عن فخرهم بفوز منتخبهم الذي يوفر لهم بعض الفرحة والبهجة. ولينجح بذلك الفريق الوطني لكرة القدم في إخراج مئات آلاف من الجزائريين للتظاهر والتعبير عن فرحتهم من دون أي نداء أو حملة مسبقة، في تعبئة جماهيرية تعجز عن تحقيقها المؤسسات الرسمية والأحزاب ووسائل الإعلام عشية استحقاقات انتخابية عديدة لحثهم على المشاركة في الانتخابات على سبيل المثال، فهل تفوقت كرة القدم على السياسة في تعبئة الجماهير؟ أم أن السياسة هي التي خسرت جمهورها؟ لقد أبعدت طبيعة العمل السياسي السائد اليوم في البلاد الجزائريين عن المشاركة في العمل السياسي ومختلف مظاهره. ولكن هذا لا يعني أن الجزائريين قاطعوا السياسة، بل بالعكس كلما أتيحت حرية التعبير للجزائريين، وبرزت بوادر الانفتاح السياسي بعيدا عن الأطر التقليدية، سيخرجون بقوة وبسلمية للتعبير عن مواقفهم السياسية والاجتماعية، وخير دليل على ذلك حجم المشاركة الشعبية في مظاهرات الجمعة في أثناء الحراك.
الأمم بحاجة إلى انتصارات، بما فيها الرياضية التي قد تخدم الأمم بحجم الانتصارات العسكرية نفسها
ولعل ما يمكن استخلاصه من مظاهر فرحة الجزائريين أن كرة القدم أصبحت أحد مقومات الانتماء الوطني، وإن لم نقل أهمها لدى بعضهم، ما تجلى من خلال الوجود الكثيف للراية الوطنية، سواء في مدرجات ملعب البيت (الدوحة)، وفي شوارع المدن الجزائرية، وأين توجد الجاليات الجزائرية. ليتولد عن انتصارات محاربي الصحراء توحيد الجزائريين خلف فريقهم، ولو ظرفيا. ولهذا تترافق انتصارات محاربي الصحراء بإحياء رسمي رفيع المستوى، تماشيا مع الفرحة الجماهيرية. والأمم بحاجة إلى انتصارات، بما فيها الرياضية التي قد تخدم الأمم بحجم الانتصارات العسكرية نفسها، كما أكد ذلك الرئيس الأميركي جيرالد فورد سنة 1974، في تصريحٍ يعكس حقيقة معروفة منذ العصور القديمة عن مساهمة الألعاب في تعزيز عظمة الأمم من خلال التمجيد الجسدي والاجتماعي للوطن. هذا واقع رسخته العولمة، إذ أثبتت الرياضة نفسها حقيقة عالمية للحداثة. ولهذا الجزائر في حاجةٍ ماسّة إلى انتصارات رياضية متكرّرة، وفي كل الرياضات، ترفع من منسوب التفاؤل والأمل لدى الجزائريين، وتقلل، في الوقت نفسه، من حجم الإحباط والإقصاء، خصوصا لدى الشباب منهم، والذين يحلمون بمغادرة الوطن بشتى السبل، انتصارات تجعل الجزائريين يؤمنون بقدرات الشباب الجزائري وطاقاته.
الإمكانات العمومية التي توفرها الدولة جاءت لتخدم الفرديات الرياضية، والتي تم تجميعها في وقت قصير للمشاركة في كأس العرب
لم تقم دينامية الانتصارات التي أوجدها الفريق الوطني لكرة القدم بالدرجة الأولى على استراتيجيات مؤسّساتية معلنة، بل جاءت نتيجة لطبيعة النشاط الرياضي، فالرياضة، بما فيها كرة القدم، وعلى عكس مختلف المجالات الحيوية الأخرى، تبقى أحد الميادين المفتوحة التي تحقق الحركية الاجتماعية، بغض النظر عن الانتماء الاجتماعي للاعبين. وبعيدا عن مختلف التدخلات والوساطات والانتماءات والولاءات التي تحكم التعيينات في بلداننا، فاللاعبون الذين يشكلون الفريق الجزائري والذين ينحدرون من مختلف الفئات الاجتماعية، بما فيها المتواضعة، ومن مختلف مناطق الجزائر، تم اختيارهم، بالدرجة الأولى، على أساس مهاراتهم وكفاءاتهم واحترافيتهم، وهو ما يفسّر وحده نجاحات الكرة الجزائرية في السنوات الأخيرة، فالنجاح يقوم على العمل والمثابرة، لأن فوز الفريق الوطني جاء نتيجة مجهودات كبيرة للاعبين في الميدان. أما الإمكانات العمومية التي توفرها الدولة، والتي لا يمكن التقليل من دورها، فقد جاءت لتخدم تلك الفرديات الرياضية، والتي تم تجميعها في وقت قصير للمشاركة في كأس العرب.
الانتصارات الرياضية وحصد الألقاب القارّية والإقليمية تكسر لدى الشعوب الشعور باليأس والاستسلام، خصوصا لدى الشباب. ولذا لا يمكن التقليل من تأثير دور الرياضة على المجتمع، خصوصا على الفئات الشابة. ولكن هذا لا يعني أن واقع الجزائر والجزائريين ومستقبلهم يرتبط حصريا بالانتصارات الرياضية، بل الجزائر بحاجة إلى انتصارات متنوعة وفي مجالات مختلفة، لا يمكن أن تتحقق إلا بتوفير شروط نهضة واضحة المعالم تنطلق من الفرد الجزائري، وتطلق العنان لقدرات الجزائريين في مختلف المجالات، وتوفر فرصا متساوية للجزائريين، بعيدا عن الإقصاء وممارسات الماضي، نهضة تضمن كرامة الجزائريين، من خلال الارتقاء بقدراتهم الشرائية وتوفير العيش الكريم لهم في وطنهم.