عن لوم السوريين على تصديق وعود تركيا
يسهل العثور على أمثلة عن زوال الشعرة الشهيرة التي تفرّق ما بين التحليل والتبرير لدى متابعة أخبار الاستدارة التركية في السياسة الخارجية هذه الأيام. المتحمّسون دينياً وعاطفياً ومصلحياً لتركيا ــ العدالة والتنمية يجيدون تبرير المصالحات التي بدأت مع مصر والإمارات والسعودية وإسرائيل منذ أكثر من سنتين ويتم إنجاز آخر مراحلها حالياً. يكفي أن تكرّر ما تقرأه في الإعلام التركي الرسمي أو المقرّب من الحكومة أو أن تسمع تصريحات المسؤولين هناك لكي تقول التالي ببغائية: تركيا دولة كبيرة، لا ترسم سياساتها إلا بناءً على مصالحها، ومصلحتها اليوم أن تطوي صفحات من الماضي (القريب). مصر دولة كبيرة وما يربطنا معها أكبر من اضطهاد الإخوان المسلمين هناك. السعودية والإمارات بلدان شقيقان اختلفنا معهما في النظرة إلى مستقبل العالم العربي بعد موجة أحداث 2011، وحان الوقت لإرساء تنسيق مشترك ستستفيد منه شعوب المنطقة كلها. أما ما يتعلق بإسرائيل، فيقول مريدو حكام أنقرة إنه تم تحميل تركيا أكثر مما تحتمل من أوزار القضية الفلسطينية، وقد أدّت قسطها للعلا سياسياً واقتصادياً وإنسانياً، وما أدراكم، مصالحتنا الكاملة مع تل أبيب "ستعود بالفائدة على الفلسطينيين"، والكلام الأخير الوارد بين مزدوجين هو ما قاله حرفياً وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو في مايو/ أيار الماضي وفي 17 أغسطس/آب الحالي. لمَ لا، ألم يخبرنا الموقعون العرب على اتفاقات "أبراهام" مع إسرائيل، تحديداً الإماراتيين منهم، أنهم يتحالفون مع تل أبيب من أجل مساعدة الفلسطينيين؟
هذه عيّنة ممّا يمكن سرده لتبرير المصالحات مع الرباعي السعودي ــ الإماراتي ــ المصري ــ الإسرائيلي من جهة نظر تركية رسمية. أما إيجاد الأعذار للتغيير حيال ليبيا، وفتح خطوط تواصل مع معسكر الشرق ورمزيه خليفة حفتر وعقيلة صالح، فهو أسهل، وقد يكون فيه وجاهة بصراحة: الاستعصاء الليبي يُلزم تغيير زاوية التعاطي مع هذا البلد، وفتح خطوط مع الجميع والاقتناع بأن غير ذلك لن يؤدي إلا إلى تقسيم ليبيا دويلاتٍ قد تكون بعدد قبائل هذا البلد.
أما حين يصل النقاش إلى مشروع مصالحة نظام بشار الأسد، فيغدو عدد كبير من أنصار الخيارات التركية أكثر عدوانية وعنصرية أحياناً. بالنسبة إلى هؤلاء، يصبح حرق علم تركي في تظاهرة ما في إدلب أو ريف حلب، كتعبير عن رفض دعوات جاووش أوغلو للضحية كي تعتذر لقاتلها تحت مسمّى المصالحة، يصبح هو الموضوع لا فداحة الدعوة تلك. عند المؤيدين الأتراك، القصة سهلة: تركيا استضافت ثلاثة ملايين لاجئ سوري. صرفت عليهم (هنا لا يتذكّرون أوجه استفادة تركيا من طيف كبير من السوريين المقيمين على أراضيها) وحملت قضيتهم وحاربت نظام الأسد وكادت تدخل مواجهة عسكرية مع روسيا من أجلهم، وقد فشل السوريون في إطاحة الأسد، بالتالي على قولة رجب طيب أردوغان نفسه عشية ذكرى مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية، "لا يهمنا إن هُزم الأسد أو لم يُهزَم"، تاركاً للمريدين بلورة تتمّة العبارة: يجب أن نطبّع العلاقات مع دمشق لتعود تدريجياً إلى ما كانت عليه قبل 2011-2012. طبعاً يندر أن تجد من بين المؤيدين الأتراك لسياسات حكومتهم، من يورد انتخابات صيف 2023 في تركيا سببا موجبا لهذه التغييرات. ربما خيراً يفعلون حين يقللون من أهمية الانتخابات هذه في الخيارات الخارجية العريضة، لأن رأياً جدّياً يقول إن ما قد يكسبه معسكر أردوغان في صندوق الاقتراع من هذه المصالحات، قد يخسره من النواة الصلبة لجمهوره الإسلامي.
يكفي المرء أن يكون صادقاً مع نفسه لكي يقول إن تركيا الأردوغانية كان لها تصوّر خاص بمصلحتها وحدها للمنطقة العربية بعد موجة انتفاضات 2011. خسرت رهاناتها الكثيرة على إسلاميين كثر، فشلت في تدخلات عديدة، وبرأي حكامها صارت العودة إلى علاقات ما قبل 2011، اليوم قبل الغد، حاجة ضرورية لاستعادة مصالح قديمة وضمان أخرى جديدة. أما من يلوم السوريين اليوم، مواطنين مهجّرين لا سياسيين، على "تصديق" وعود تركيا مُرغمين بحكم غياب البديل، فإنما يُكمل ما بدأه من عاتبهم في الأمس على الخروج ضد حكم الاستعباد في بلدانهم.