عن مؤتمر دحلان في غزة
هناك، في فندق المشتل، في غرب غزّة، وبحضور وجهاء ومخاتير من القطاع، وفي ثلاثة أيام متتالية بدأت الأربعاء الماضي، عُقد ما يسمّي نفسه "التيار الإصلاحي الديمقراطي" (في حركة فتح) مؤتمراً لساحة غزة، نوقشت فيه أوراقٌ تنظيميةٌ وإداريةٌ ومالية، وانتهى بانتخاب 64 شخصاً لقيادة الساحة، من أربع محافظات، قال المتحدّث باسم المؤتمر، واسمُه عزام شعث، إن نسبة التصويت 95,6% من مجموع أعضاء "التيار" في القطاع، وعددهم 621. وتنافس 125 شخصا، بينهم 29 امرأة. وكان المؤتمر قد بدأ بكلمةٍ لرئيس التيار، محمد دحلان، استمع إليها وشاهدها المؤتمرون بتقنية الفيديو كونفرنس، وقد ألقاها، من مُقامه في أبوظبي، وكان في الأثناء مع جمع من صحبه.
قد يصحّ هنا الاعتذار لقارئ هذه الكلمات، بسبب ما قد يستشعر في مقدمتها هذه من تطويلٍ ومن تقليديةٍ إخبارية، غير أن ما قد يسوّغهما أنه على الرغم من أن أعمال المؤتمر المتحدّث عنه كانت معلَنة ومصوّرة، إلا أن وسائل إعلامٍ عديدةً آثرت عدم الاكتراث به، ربما من قبيل أنه لا يستحقّ، وأن الكلام الذي قيل فيه لا يطحن قمحاً، أو ازدراءً بأصحابه وناسه. غير أن في الوُسع لأيٍّ منا، سيما نحن العاملين في الصحافة، أن نرى الأمريْن، الازدراء وسابقَه، في شأن هذه الواقعة الفلسطينية في قطاع غزة (وأبوظبي)، وفي الوقت نفسِه، أن نلتفتَ إلى ما تتصل بها من تفاصيل، أو ما تتلملم فيه من رسائل، سواء وصلت إلى المعنيين أو لم يستقبلوها.
أول ما يمكن قولُه هنا إن حركة حماس، عندما تأذن لهذا الجمْع أن يجتمع، وينتخب، ويُناقش شؤونه، فإنها لا تقصُص علينا واحدةً من حكاويها في دفاترها الديمقراطية، ولا تقنعنا بأن الإيمان بالتعدّدية وحق الاختلاف والمغايرة متوطّنٌ في مدارك زعاماتها وقادة مجاميعها الأمنية والعسكرية في قطاع غزة. لا، ليس الأمر هكذا، وإنما تريد "حماس" أن ترسل إلى قيادة حركة فتح في رام الله والرئيس محمود عبّاس أن في جِرابها من أسهم النكاية ونِبالها ما ليس في مَكَنةِ أحدٍ عدّها. غير أن الأهم، والأوْلى أن يكون موضع انتباه، أن لتيار محمد دحلان ناسَه غير القليلين عدداً، ولا الهيّنين أوزاناً اجتماعية، وفي مُستطاعه أن يتمدّد، وأن يُشهر أمام الملأ مؤتمراً تنظيمياً، إنْ كان الأول من نوعه، ففي المقدورِ أن يُنجز مثله في الضفة الغربية لو أبيحَ له هذا. وفي المُرسلة هذه، لا يقيم ناس "التيار الإصلاحي" في حركة فتح في القاهرة ولا في أبوظبي، وإنما في الوطن بجناحيه. وعندما عطّل محمود عباس الانتخابات التشريعية الفلسطينية، بدعوى لم يقبضها أحدٌ على محمل الجد (وإن يصعب إجراؤها في القدس)، فيما واحدٌ من الأسباب أن محمّد دحلان، من محلّه في عاصمة الإمارات، يستطيع أن يشكّل قائمةً تُنافس، وتحت مسمّى حركة فتح، وذات حظوظ في نيل مقاعد، غير قليلةٍ ربما.
وعندما يستقبل وزير خارجية روسيا، لافروف، في مكتبه في موسكو في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني، محمد دحلان، فإن في وسع الأخير أيضاً أن يكون صاحب أطاريح في محاججات المجادلات السياسية (والفكرية إن شئت؟) الفلسطينية، فيقبل، في طوْره الراهن، "حل الدولة الواحدة" خيار تحدٍّ، بعد أن حطّم الاحتلال كل أسس حل الدولتين ومقوماته، على ما أخبر مستمعي كلمته في افتتاح مؤتمر فندق المشتل. وهي كلمةٌ أسرفت في تأكيد انتساب "التيار الإصلاحي" إلى حركة فتح، وانتهاجه الديمقراطية بوابةً لاستعادة الحركة دورها وروحها وثقافتها. بل ويتكلم أيضاً عن شراكةٍ وطنيةٍ ونبذ "المصالح الشخصية المتضاربة". .. ولأن الفلسطينيين شبعوا من أرطالٍ من مثل هذا الكلام، عقوداً، يصير من البلاهة أن يشتروا اللتّ والعجن في خطبة دحلان هذه، وقد أتقن فيها من كتبها الإنشائيات السليمة اللغة. ولمّا كان صحيحاً أن الفلسطينيين، في المجموع العام، أيضاً لا يُماشون دحلان في الذي قاله إلى أنصاره الإصلاحيين، وأن أرشيف الرجل لا تصنع له الصورة التي يُجاهد من أجلها، إلا أن هذا الأمر وذاك لا يجيزان التعامي عن أنه صار حالةً تتوفّر على أسبابٍ تساعدها على أن تتفشّى وتشيع وتتّسع، لعوامل غير قليلة، في مقدّمتها بؤس المشهد الفلسطيني الراهن، والقيعان التي يمكث فيها، وقد أخذه إليها موهومون في رام الله، فاشلون، يقيمون على يباسٍ خادع، وانقساميون في قطاع غزّة، ها هم يستعينون بمحمد دحلان ويستخدمون جمعاً له مُشهراً، يُنصت إلى محكيات الوحدة والشراكة و..، وإلى "حل الدولة الواحدة" أيضاً.