عن "مخالب التنّين الناعمة"
ينقل لنا الباحث العراقي، طه جزّاع، في كتابه الجديد "الصين .. مخالب التنّين الناعمة" واقعة طريفة رواها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في منتدى التعاون الصيني - العربي الذي انعقد في الكويت. يقول بينغ إنه يعرف شابا أردنيا اسمه مهند فتح مطعما للأطباق العربية في مقاطعة تشجيانغ الصينية، وأحرز نجاحا كبيرا، وتزوّج فتاة صينية، وهو بذلك لم ينجز بجهده حياة شخصية رائعة له فحسب، إنما جسد الاندماج الكامل بين حلم الصين الساعي وراء السعادة وحلم العرب الموازي له. وفي واقعة أخرى زار بينغ مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، وتحدث مع مضيفيه عن الصداقة بين الصينيين والعرب، وردّد مثلا صينيا: "الصديق العزيز هو الذي يتطلع إليه الآخرون قبل الزيارة، ويشتاقون إليه بعدها".
تعكس الواقعتان الرغبة الصينية في عودة الحياة إلى طريق الحرير، حيث كانت البواخر تنتقل بين موانئ الصين وبلاد العرب قبل ثلاثة آلاف سنة لنقل الحرير "الأجمل من الزهور والأدق من نسيج العنكبوت". وفي واقع الحال، مشروع طريق الحرير، كما يراه جزّاع، "عولمة صينية سبقت العولمة الأميركية بأكثر من ألفي عام، إذ تلاقحت عبره أفكار وثقافات، وتحاورت حضارات، وعبرت فلسفات، وامتزجت ملل ونحل وأديان". وإذا كانت عاصفة فيروس كورونا قد أضرّت بفكرة الطريق، إذ خرّبت جهودا على مدى سنوات طويلة، كانت الصين من خلالها تحلم بعودة الحياة إلى الطريق، لتكتمل العولمة الصينية في شكلها الجديد، فإن جزّاع لا يتوقف عن التبشير بأن هذه "العولمة" ستصبح في المستقبل بين طرفين، الصين من جهة، والعالم أجمع من جهة أخرى، ولن تبقى خارجها سوى أميركا التي زرعت بذورها الفكرية الأولى، وروّجت مفاهيمها، لكنها لم تحصد ثمارها، إذ تساقطت تلك الثمار، في النهاية، بين فكّي التنين الأحمر. وثمّة من يعتقد أن روسيا أيضا سوف تصبح على وفاقٍ مع "العولمة" الجديدة، وستتعاون مع الصين، خصوصا بعد انهيار علاقاتها مع واشنطن، وربما ستطلق "العولمة" الجديدة إمكانية تحالف الدولتين على أسسٍ استراتيجية، ونذكّر هنا بإجابة الرئيس الروسي بوتين عن سؤال بشأن إمكانية إقامة تحالف مع الصين بقوله: "كل شيء ممكن".
عندما دقت ساعة الصفر، أظهر التنين الصيني مخالبه وخرج من مخبئه، معتمدا كل السبل الناعمة في انفتاحه على العالم
وبحسب رؤية جزّاع، لم تضع أميركا، في السابق، أمام عيونها احتمال أن تنافسها الصين على قيادة العالم، فقد أنفقت تريليونات الدولارات على الحروب، وفي ظنها أن التنين الصيني منزوع المخالب، ومشغولٌ بصراعاته الداخلية، ومختبئ وراء سور الصين العظيم، فيما كانت الصين، إبّان ذلك، تستعد لهجمتها الناعمة على العالم، وتواصل خططها الاستثمارية والتنموية، وتؤسّس لمشاريع استراتيجية واعدة على نحو مذهل. وعندما دقت ساعة الصفر، أظهر التنين مخالبه وخرج من مخبئه، معتمدا كل السبل الناعمة في انفتاحه على العالم، وخصوصا على شعوب آسيا وأفريقيا التي يعتقد الصينيون أنهم الأقرب إليها من الآخرين. وكانت خطوة إعلان تأسيس "طريق حرير" جديد تحت شعار "حزام واحد طريق واحد"، وتنظيم قمة تروّج المشروع بمشاركة 150 بلدا بمثابة مفاجأة غير سارّة للأميركيين.
كل هذه المعطيات وغيرها دفعت جزّاع إلى أن يأخذنا في رحلةٍ افتراضيةٍ طويلة، يحيلنا فيها إلى كل ما يخطر في البال، وما لا يخطر عن الصين، تلك الأرض الشاسعة البعيدة، والعامرة بسكانها الكثيرين الذين اقترب عددهم من مليار ونصف المليار مع بداية هذا العام، وورد ذكرها في مأثوراتنا الشعبية أنها موطن علم ومعرفة، "اطلبوا العلم ولو في الصين". وهي، بوصف المؤلف، "مصنع العالم الذي يكسب القلوب والجيوب". وتقترب هذه الرحلة من أن تكون صورة مكبّرة لأطياف قوس قزح الصيني، موثّقة بالتواريخ والأرقام، يستطيع القارئ من خلالها أن يطّلع ليس على واقع الحال الماثل فحسب، وإنما أيضا على تاريخها وجغرافيتها وفلسفتها وسياساتها وعلاقاتها الخارجية ودورها في عالم اليوم، وتطلّعها إلى أن يكون هذا الدور أكثر اتساعا، باعتبارها تمثل قطبا عالميا تتصاعد إمكاناته في التأثير مع الزمن، وحبذا لو اطّلع صناع القرار في بلداننا على الكتاب، خصوصا أن قراءتهم له لن تأخذ كثيرا من وقتهم الثمين!
بقي أن نقول إن أصدقاءنا الصينين يفرضون ظلّهم على العالم، وقد عرفوا من تراثهم الفلسفي كيف يكسبون الناس بحب وصبر وأناة، وتعلّموا ألا ينتقموا من أحد.. إنهم فقط يجلسون على شاطئ النهر، والتيار كفيل بحمل جثث أعدائهم.