عن مستقبل جيبوتي في رئاسة جيلي الخامسة
رافقت مسيرة الرئيس الجيبوتي المنتخب، إسماعيل عمر جيلي (73 عاماً)، تاريخ جيبوتي الحديث، حيث لا يذكر اسمها إلا ويذكر معها حاكمها منذ عام 1999، عندما تولى السلطة في انتخاباتٍ تنازل بموجبها عمّه حسن جوليد أبتدون عن حكم جيبوتي الذي تولاه منذ الاستقلال عام 1977، وترشّح جيلي ليصبح خليفته، وانتخب رئيساً لجيبوتي في مايو/ أيار عام 1999، وما زال يسيطر على مقاليد الحكم، فقد فاز في الانتخابات الرئاسية الثلاث الأخيرة، بعد أن أجرى تعديلاً في الدستور عام 2010، لإلغاء بندٍ يحدّد عدد الولايات الرئاسية التي كانت محددة بفترتين، وتمديد السن الأقصى للترشّح بـ75 عاماً، ما يعني أن انتخابه يوم الجمعة الماضية سيكون هو الأخير ما لم تأت مبادرة جديدة منه لتعديل الدستور ثانية، ما يعكس مدى مصداقية التهم الموجّهة إلى الرئيس المنتخب بإقصاء المعارضة، وتكريس حكم الاستبداد، وعدم فرض نظام ديمقراطي شفاف في جيبوتي التي شهدت في العقدين الأخيرين نهضة اقتصادية، من خلال تشغيل الموانئ وتحريك عجلة التنمية لاقتصادية، إلى جانب الاستفادة من الاستثمارات الضخمة، والتي تؤهلها لتصبح بوابة التجارة الحرّة في أفريقيا بالتعاون مع الصين. وتحلم جيبوتي أن تتحول إلى "دبي أفريقية" في غضون العقد المقبل، ولكن تحقيق هذا الحلم أمامه تحدّيات اقتصادية تحتاج جهداً جيبوتياً أكبر من خلال الاستفادة من التوجه الغربي تجاهها والاستثمارات الصينية والنفوذ المتزايد في تخوم موانئها شرقاً وغرباً.
مستوى الفقر المدقع في جيبوتي يرتفع كنافورات المياه، على الرغم من المشاريع الاقتصادية الضخمة التي تشهدها
وفي مقابل التهم التي توجهها المعارضة الجيبوتية إلى الرئيس، ديكتاتورية النظام الحاكم وتفرّده بالحكم، وإقصاء الحريات العامة، وتحجيم حريات الصحافيين وغيرهم، ينفي إسماعيل عمر جيلي هذه كلها باستمرار، فقد قال، في خطاب انتخابي له أخيراً، إن "تلك التهم لا تلقى آذاناً صاغية"، وإنها لمجرّد إشاعة فتنة في البلاد. وبهذا يكرّس جيلي مبدأ سيادة الاستقلالية، وحق نظامه في مواجهة كل التهم التي تصفه بأن نظامه ضد الديمقراطية. وكرّر في حملته الانتخابية بناء جيبوتي بلداً صاعداً يختار طريقه نحو رخاء اقتصادي، ويمنّي شباب جيبوتي بمستقبل واعد. ولكن الحقيقة الماثلة أن مستوى الفقر المدقع في جيبوتي يرتفع كنافورات المياه، على الرغم من المشاريع الاقتصادية الضخمة التي تشهدها جيبوتي، حيث قدّر البنك الدولي نسبة الفقر فيها بنحو 21%، ما يعني أن اقتصادها المتنامي لا يستفيد منه السواد الأعظم من الجيبوتيين. وسياسياً تبدو المعارضة السياسية بلا دور في مستقبل البلاد منذ عام 2016، ما لم يتغير النهج السياسي للنظام الذي يوظّف سياسة التهميش والإقصاء التي تمارس على الآخر، ما يعني أن القبضة الحديدية منصبّة على الداخل، وهو ما يثبت حقيقة ادعاء الكاتبة الفرنسية، سونيا لوغوريليك، أن النظام في جيبوتي "كلما انفتح على العالم زاد انغلاقه داخلياً".
تحظى جيبوتي بدعم دولي من خلال تأجيرها القواعد العسكرية، والاستثمارات الصينية التي تريد بكين بها أيضاً تسويق بضائعها عبر موانئها
وقد كان فوز جيلي في الانتخابات الرئاسية التي انتظمت يوم الجمعة الماضي (9 إبريل/ نيسان) متوقعاً، محلياً وخارجياً، بسبب عدم توفر أرضية وسطية لتنظيم انتخابات ديمقراطية؛ حيث تنافس مع جيلي مرشّح لا شأن له بالسياسة، الأمر الذي عكسته نسبة الفوز التي جاوزت 98% من الأصوات لصالحه. وعلى الرغم من ذلك، تمضي جيبوتي نحو تحدّيات كثيرة، وهي التي ستحدّد مستقبلها الجيوسياسي والاقتصادي، فعلى الرغم من أن هذا البلد منطقة صغيرة وبعدد سكان أقل من مليون نسمة، إلا أنها تمتاز بموقع جغرافي جذّاب، يثير شهية الأقطاب الدولية المتصارعة في الهيمنة على مداخل البحر الأحمر ومضيق باب المندب الذي يتحكّم بأهم الممرّات العالمية حيوية في التجارة الدولية. وتحظى الدولة بدعم دولي من خلال تأجيرها القواعد العسكرية، والاستثمارات الصينية التي تريد بكين بها أيضاً تسويق بضائعها عبر موانئ جيبوتي، وبتشييد سكك حديد تربط جيبوتي بجارتها إثيوبيا، وهو ما سيجعل جيبوتي مستقبلاً ليس فقط ثكنة عسكرية عالمية، بل ممرّاً تجارياً برّياً يوازي الممرّات البحرية. والسؤال هنا: هل ستستفيد الطبقة الكادحة من الجيبوتيين من هذه النهضة الاقتصادية، وخصوصاً في الأحياء الفقيرة والقرى النائية، أم هل ستبقى الثروات محصورة بيد النظام وحاشيته، لترسيخ جذور الطغمة المنتفعة والإقطاعية وتهميش طبقة الفقراء والمعوزين؟
حسمت الانتخابات في جيبوتي لصالح رئيسها منذ 23 عاماً، وهي الفترة الخامسة التي يفوز بها هذا الرئيس على التوالي
ويبدو أن مكانة جيبوتي الإقليمية تزداد ضعفاً، بعد التقارب الإثيوبي - الإريتري، وخصوصاً عقب مجيء آبي أحمد رئيساً للوزراء في إثيوبيا عام 2018، وتشعر القيادة الجيبوتية بأن العلاقات بين أسمرة وأديس أبابا ستتعزّز يوماً بعد الآخر، في مقابل تقوقعها وتراجع علاقاتها مع الدول الإقليمية، وخصوصاً مع الصومال الذي يتجه أكثر نحو الارتماء في أحضان آبي أحمد ونظيره الإريتري أسياس أفورقي، فالعلاقات بين جيبوتي ومقديشو متدهورة منذ الانفتاح الذي شهده إقليم القرن الأفريقي، وهو ما يدفع جيبوتي إلى إعادة القراءة بشأن تلك العلاقات المتذبذبة، وتبني سياسة "صفر مشكلات" مع محيطها الإقليمي، والمحافظة على توازنها، والحذر من العبث بالخيط الذي يفصل بين علاقاتها مع شركائها من الدول الكبرى، من الصين وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية.
إذاً، حسمت الانتخابات في جيبوتي لصالح رئيسها منذ 23 عاماً، وهي الفترة الخامسة التي يفوز بها هذا الرئيس على التوالي، لكن يتوقع أن تكون الأخيرة، طبقاً للتعديل الدستوري الذي أجراه عام 2010، وبموجبه يمنع جيلي من الترشح مرّة سادسة ليحكم جيبوتي. لكن المعارضة تقول إن هذا الخصم سيبقى في الحكم، ما بقي حياً، إذا لم يسلك طريق عمه جوليد أبتدون (1977-1999)، وهذا الخيار هو الأمثل، وعلى الأقل يحفظ ماء وجه الرئيس عمر جيلي الذي يحكم جيبوتي فترة تمتد نحو 45 عاماً بين رئيس حكومة ورئيس الدولة. ولكن حسم جيبوتي أمرها لا يجعلها مرتاحة من دون هدوء عواصف جيرانها، وخصوصاً في إثيوبيا التي شهدت حرباً داخلية، إلى جانب صراعاتها الدبلوماسية مع مصر والسودان بشأن سد النهضة، وهي أزمة ترتفع وتيرتها كلما أعلنت أديس أبابا عن ملء ثانٍ للسد.
لا يزال الوضع السياسي في الصومال مربكاً بعد فشل المباحثات بين الشركاء السياسيين أخيراً لتحديد موعد للانتخابات
وفي الصومال لا يزال الوضع السياسي مربكاً بعد فشل المباحثات بين الشركاء السياسيين أخيراً لتحديد موعد للانتخابات، وهو ما قد يعطي الرئيس الجيبوتي مكانة جديدة في حلّ تلك الخلافات، من خلال مبادراته للحوار بين الفرقاء الصوماليين، والتي بدأت منذ انهيار الدولة المركزية عام 1991، فهل سيلعب دوره في إنقاذ الصومال مجدّداً، أم سيتفرّج هذه المرة بسبب الخلافات الصومالية الجيبوتية القائمة بشأن علاقة مقديشو بأسمرة منذ 2018.
أخيراً، أمام الرئيس المنتخب، إسماعيل عمر جيلي، خيارات عدة، فإما أن يسلك نهجاً جديداً للحكم، ويمنح فرصة للمعارضة السياسية، ويبدأ عهد انفتاح جديد في جيبوتي، تستبدل فيه نظام التداول السلمي للسلطة بدل نظام الحاكم المتفرّد السلطوي، كآخر فرصة للإصلاح السياسي في بلد موارده الطبيعة شحيحة، بقدر موقعه الجغرافي المتميز، والذي يوفر له قدراً كبيراً من الاستثمارات الأجنبية، أو أن يبقى جيلي في الحكم مدى الحياة، من دون أن يخلف وراءه نظاماً سياسياً يجمع شتات الجيبوتيين في الداخل والخارج، ويؤطّر لمرحلة سياسية، ملؤها المشاركة السياسية لا المغالبة السياسية والإقصاء والتهميش، حتى لا تقع فريسة التجاذبات الدولية فيها، ومن دون أن يكرر تجربة سياد برّي في الصومال.