عن مهرجان بابل
في مهرجان بابل للثقافات والفنون العالمية، الذي انعقدت دورته الـ 11 أخيراً، حضرت فلسطين في مختلف التفاصيل، ضيفَ شرفٍ في حفل الافتتاح، المُبهر شكلاً ومضموناً، في المدينة الأثرية العريقة، وبحضور جماهيري كبير غصّت به جنبات المسرح البابلي العتيق.
استمع الحضور في البدء، إيذاناً بفسحة الفرح التي عزت أسبابها إلى النشيدين العراقي والفلسطيني، وإلى أصوات محمد مهدي الجواهري ومحمود درويش ومظفّر النوّاب ونزار قبّاني وسميح القاسم، تتردّد في جنبات الموقع الأثري العريق الموغل في القدم، في قصائد عشقهم فلسطين يتلوّن الوطنُ والجرحُ العميق الغائر. تلت هذا رحلةٌ شائقةٌ في دروب الماضي السحيق، من خلال عرض أزياء تاريخي يحبس الأنفاس، لكثرة جمالياته، واعتنائه بالتفاصيل، من موسيقى وفرجة بصرية أوصلت الفكرة ببراعة، في دمج ذكيٍّ بين ملامح التراثين العراقي والفلسطيني، واختُتِمَ حفل الافتتاح النوعي بصوت المبدعة اللبنانية جاهدة وهبي، التي تألّقت وحلّقت في وصلة من الغناء المُلتزم، لامست أوجاع المواطن العربي في كلّ مكان، ودبك الشباب ومعهم الشابات على وقع أغنية باتت شعاراً عالمياً، بصوت محمد عسّاف: "أنا دمّي فلسطيني".
لم تغب فلسطين، المكان والقضية العادلة، لحظةً عن الفعاليات كافّة، فخُصّصت ندوة بعنوان "الأدب الفلسطيني"، تناولت تجارب كبار كُتّاب فلسطين، مثل إميل حبيبي وغسّان كنفاني وغيرهما. وظلّت فلسطين ثيمةً أساسيّة في الأمسيات الشعرية المتتالية، التي أخذت مساحتها الكافية، واكتظّت بالحضور المُتعطّش المُتلهّف للقصيدة، المتذوّق الأصيل للشعر. واتيح لروّاد المهرجان متابعة فيلم "باب الشمس"، المأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته، تحكي الشتات الفلسطيني، للبناني إلياس خوري. وأقيمت ندوات فكرية بعناوين مهمّة مثل "السردية اليهودية الصهيونية بين المدوّنة التاريخية والدينية" و"الأصولية اليهودية والسلوك الصهيوني". كذلك تواصل معرضا الكتاب والفنّ التشكيلي، بمشاركة دور نشر عربية وعراقية، وضمّ معرض التشكيل أعمالاً قيّمة لفنّانين عراقيين، من اتجاهات مختلفة، فكان إضافة جمالية نوعية توّجتها شهادات تشكيلية أضاءت منجز بعض الفنانين من أصحاب التجارب المكرّسة مثل فائق العبودي (العراق)، ومحمد العتيق (قطر). وأخذ المسرح حقّه في الحضور والتعبير، في عروض مسرحية مُهمّة، منها مسرحية مدهشة بعنوان "تخته"، على مسرح كلّية الفنون في الحلّة، واستضاف المهرجان مجموعة كبيرة من الكاتبات والكُتّاب العرب والأجانب، محتفلاً بتجاربهم، مُفسحاً لهم الفضاء للحديث عن تجاربهم، والتعبير عن إبداعاتهم. وخُصّصت مساحات أخرى للسينما والدراما التلفزيونية، والموسيقى، ونُظّم ضمن الفعّاليات مؤتمر الآثار، الذي استضاف مجموعة من علماء الأركيولوجيا العالميين، وسلّطت أوراق المؤتمر الضوء على تاريخ بابل مهداً للحضارة وبدايةً للتاريخ.
لعل أكثر ما لفتني، في هذا المهرجان، إضافة إلى كرم الضيافة وحسن الوفادة، التنظيم شديد الاحترافية، الذي يقوده مدير المهرجان، الصديق علي الشلاه، وفريق عمل، من متطوّعات ومتطوّعين، عملوا على مدار الساعة بكلّ حب وإخلاص وتفانٍ من أجل راحة الضيوف وبذلوا أقصى طاقاتهم لإنجاح هذه التظاهرة الثقافية الحضارية الجمالية، وتمّ لهم ذلك، رغم الظروف المعقّدة الشائكة في بلدٍ ما زال يتعافى من جراحه، ويسعى لكسر الحاجز النفسي الذي سبّبته سنواتٌ من الحروب والنزاعات والحصار، والقهر والظلم والفساد والاستبداد، التي جعلت زيارة العراق بالنسبة إلى بعضهم مغامرةً محفوفةً بالمخاطر، لكنّ الصورة سرعان ما تتّضح عند التجوّل في الشوارع المزدحمة، وارتياد المقاهي والمطاعم المكتظّة بعشاق الحياة. عائلات مطمئنة، وأطفالٌ يتراكضون ببهجة، ويحلّ إحساس بالألفة والأمان، والحب لشعب طيّب خلوق كريم، قادر على تحدّي الصعب، وصناعة المستحيل، وتجاوز الألم، وهو يشقّ بأظفاره الطريق، غير المعبّدة، نحو غد أكثر رأفة وأقلّ قسوة.
تحية إلى علي الشلاه وفريقه المتفاني الجميل، وهم يرسمون لأبناء وطنهم الغد المُشتهى، محمولاً على جناح الثقافة والفنّ والمعرفة، ويلوّنون قادم الأيام بالأمل؛ عنواناً ووعداً بالغد الأجمل.