عن نتائج كارثية للمراهنة على السلطوية في مصر
رأى جزء من الجماعة الوطنية في مصر، من نخب سياسية، في مشهد 30 يونيو (2013)، ومع صراع محتدم على السلطة، أن مصر تحتاج إلى الضبط والتنمية معاً، بعد عامين من الفوضى والتخبط والعنف التالي على الثورة، بعد تجربة ديمقراطية، لم تحقّق فيها الصناديق تمثيلاً للقوى الاجتماعية والسياسية، كما لم تنعكس على مطالب الثورة بشكل ظاهر، ما خلّف غضباً وتكتلاً ضد "الإخوان المسلمين" الذين استحوذوا على الحكم في انتخابات برلمانية ورئاسية. عملياً، تحرّرت الصناديق من عمليات التزوير، لكنها لم تُنتج حلولاً مختلفة لمعالجة المشكلات وتحقيق العدالة، ولم تمثل التوجهات الاقتصادية فروقاً كبيرة؛ إذ أعيد إنتاج سياسات قديمة، تأسّست على رؤية حكومات ما بعد الثورة أنّ المشكلة الاقتصادية تتمثل في فساد الحكم لا التوجهات. وبعد ثلاثة أعوام من الثورة، باتت الديمقراطية، أو هذا الشكل من الديمقراطية، محلّ تشكك.
من هنا، بنيت فرضية الحاجة إلى الضبط، وإلى حاكم قوي تفرضه الضرورة على خلفية أحداث ومواجهات دامية بين القوى السياسية، كان المشهد يشير فعلياً إلى فوضى، وعجز عن الحوار والتفاوض والوساطة، وتشظٍّ لحق بالقوى السياسية بما فيهم "الإخوان". واتجهت مجموعات خلال الصراع إلى العنف، في ظل مجتمع مأزوم حلم بالتغيير، لكنّه استفاق على أزماتٍ تشلّ أوجه الحياة... انقطاع في الكهرباء ونقص في السولار، وتعطل في المواصلات، بينما المؤسسات العامة كانت عصية على الإدارة.
برزت كل مظاهر الرفض والغضب، لتسود الثورة المضادّة للحشد والتمهيد للسلطة الجديدة، عبر بناء رؤية مؤسّسة لحكم سلطوي، وضحت بعد ذلك تفاصيلها، في مواقف وتصريحات ترى مظاهر الثورة، من حراك واحتجاج، وكل أدوات الديمقراطية، تهديداً للدولة، ومصدراً للعنف، وصعوداً للإرهاب، ومعطّلاً للتنمية التي تستوجب الاستقرار لجذب الاستثمارات، وبناء بلاد مهدّدة بمصائر خطرة. وفي سبيل ذلك، استخدمت، بشكل مكثف، أدوات الضبط، وأوجدت انتهاكات لحقوق الإنسان، التي سعت السلطوية إلى نقد منظومتها، معتبرة أنّ لمصر خصوصيتها، مستندة إلى إنكار للحقوق السياسية والمدنية، وإيحاء باهتمام بجانب الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، في ما يشبه إعادة إنتاج لصفقة القبول بالضبط من أجل إنقاذ المجتمع، عبر تنمية اقتصادية غير متوازنة، ومستندة إلى الديون والقروض، والأخيرة أصبحت موضوعاً للدعاية، إحدى سمات السلطوية فيما بعد متمثلة في مشروعاتٍ كبرى.
ربما بعد ستة أشهر من انتقال السلطة، وتجسّد "30 يونيو" في شكل نظام سياسي، اتضحت بعض المسارات التي ستنفذ
لم تكن رؤى يجري طرحها، مؤسّسة للسلطوية ومبرّرة لها، منفصلة عن ميل نخب سياسية إلى التأييد والمراهنة على إحداث تغيير تنموي ووطني، خلال هذه الأيام. قال لي صديق من جيل سابق، وأحد أصوات التغيير المعروفة التي لم تستوعبها المناصب بعد 30 يونيو، إنّ ثمة جنرالات بين كثيرين من البلاد من أصحاب التجارب التنموية الناجحة، وذلك في محاولة لبث طمأنة وتبرير للمسار الذي تخيّم عليه أجواء الخوف والترقب من سيناريوهات المستقبل، ووسط إشكالية تقسيم الصراع بين علمانيين ضد إسلاميين، استخدمت كمعول هدم لتفريق صفوف الثورة، وتهميش الطابعين، الطبقي والاجتماعي، أخذت الثورة المضادّة دورها في إدارة الصراع، والتحقت بصفوف العلمانيين، مدعومة برجال أعمالٍ يمتلكون وسائل الإعلام ويوجهونها، ويستوعبون خلالها بعضهم، مستعدين لتحالفات تعبر عن نفسها، ضمن مؤسسات تشرع، وأخرى تدير الاقتصاد، أو تتقاسم الأرباح.
ربما بعد ستة أشهر من انتقال السلطة، وتجسّد "30 يونيو" في شكل نظام سياسي، اتضحت بعض المسارات التي ستنفذ، وكانت ملامح السياسات الاقتصادية عنواناً للثورة المضادّة، والحديث أنّ أزمة اقتصاد لن تحلّ من دون تحرير اقتصادي ينزع عن الدولة دورها، ويستعد لرفع أسعار الطاقة ويخفض الدعم. وكان التقشف والاقتراض حلاً وحيداً لأزمة الموازنة وتمويل مشروعات ضخمة. لم يتعظ بعضهم حينها أو يدرك مساراً يتأسس على مقولات وخطط رسمية.
وفي نقاش آخر مع قيادي يساري، عرف سجون أنور السادات وحسني مبارك، قال: "لا تنطلقوا من أفكار مسبقة من دون دلائل نتاج تخوفاتكم، تعلّم جمال عبد الناصر من التجربة والخطأ، سيصلح النظام نفسه، ويستثمر شعبيته، ويتّخذ خطوات في اتجاه العدالة والانحياز للطبقات الشعبية... وحين احتدم النقاش بشأن مراهناتٍ لا مؤشر عليها طبقياً أو برنامجاً سياسياً معلناً، قال بانفعال: نقدكم النظام يعنى اصطفافكم مع قوى الإرهاب والعنف... كان خطاب السلطة الذي تردّده وسائل إعلام تردد أيضاً عن رئيس الضرورة الذي سيضبط المجتمع، ويحقق التنمية، ويحفظ الهوية المصرية المهدّدة بالوهابية وأموال الخليج، وبيع الوطن، قناة السويس والآثار والمؤسسات الوطنية. كان التمنّي يحمل أيضاً خطاباً وطنياً وشعبوياً، يعيد إنتاج صفقة قديمة، تنمية وضبط سياسي، ويشير إلى ابتعاد عن برنامج الثورة، والقرب أكثر إلى أحلام ماضوية، رغم تغيّر الزمن، وتحدّيات الواقع.
خسرت السلطوية حين استبدّت وحكمت بمفردها، وحين لم يُسمح للكتل السياسية ولا الحركات العمّالية ولا النقابات والأحزاب بأن تبدي اعتراضاً على المسار الاقتصادي
لم تنجح، كما يتضح للكل، تجربة "30 يونيو" على الصعيد الاقتصادي، حسب مؤشّرات دالة، بشأن نتائج الاستدانة والقروض، وأزمة التمويل، وارتفاع معدّلات التضخم، ومراهنات على نمو اقتصادي تراجع، واحتمالات حول ارتفاع معدلات البطالة، زادت السلطوية الأزمة تعقيداً، ولم تفلح عبر مساراتٍ مبنية على الضبط لأحداث التنمية، بل كانت السلطوية أحد أسباب الأزمة بما تركته من آثار استحال معها فرائض المكاشفة والمراجعة والتصحيح، ومن بين مظاهر السلطوية والآثار المترتبة عليها، أولاً: إغلاق المجال العام وتقييد وسائل الإعلام وحصار الأحزاب والنقابات وسجن بعض رموزها، بما همّش حدود المساءلة، وتكوّن رأي عام يعيد التوازن، أو يمثل مصالح قطاعات المجتمع.
ثانياً: انتخابات بلا تنافس، تضمن تبعية المرشّحين للسلطة، تجري بصيغة الاستفتاء، ينتهي فيها دور الناخبين، في دوائر لم تشهد تنافساً حقيقياً، مع استثناء حالات محدودية، لم يسمح لها بالحركة والتعبير، فأصبحت تفتقد تفاعلاً يخص دورها، بل جرى توظيفها أداة تشريع لخدمة سياسات اقتصادية للسلطوية.
ثالثاً: الهيمنة على مؤسسات الإعلام وتوجيه عملها، لكسب الجمهور بالدعاية والتأثير على المشاعر، بخاصة في لحظات الأزمات، باسم الوطنية، ومساندة الدولة، وتكتمل مع مهمة الدعاية، آليات تبرير الأخطاء ورد الأزمات لعوامل خارجية، تعفي ساحة متّخذي القرار من المسؤولية، لنكون أمام خطاب سلطوي، أصحابه مصابون بانفصامٍ، حين لا يدركون أنهم السبب الرئيسي في أزمات الواقع، بحكم أنهم من يتخذون القرار وينفذونه، بلا إيمانٍ بالمراجعة والإصلاح والرقابة والمساءلة، ومن دون احترام للاختلاف، في ظل هيمنة مطلقة على صناعة كلّ جوانب المشهد.
خسرت السلطوية حين استبدّت وحكمت بمفردها، وحين لم يُسمح للكتل السياسية ولا الحركات العمّالية ولا النقابات والأحزاب بأن تبدي اعتراضاً على المسار الاقتصادي. وبجانب تعطّل آليات المشاركة، ضبطت مؤسسات رسمية لتكون في خدمة السلطة والدعاية لها، وأيضاً مؤسسات الإعلام، في استحواذ على كل مصادر القوة والفعل. هذا عن الكتل، أما أفراد المجتمع، فقد وقع كثيرون منهم ضحايا القمع والتضييق لأسباب واهية، نقد سياسة أو إجراء اقتصادي ولو بشكل ساخر، في أجواء من الخوف والريبة. زادت أزمة الاقتصاد، وأضافت السلطوية، بسماتها، أبعاداً على الأزمة، حين غابت المراجعة والرقابة والمحاسبة وفرص تدارك الأخطاء.
ذهبت في مصر شعارات "30 يونيو" حول التنمية المستقلة المعتمدة على الذات، التي ارتدت عباءة ناصرية وشعبوية بغرض الدعاية، واكتشف الجميع زيفها
ذهبت اليوم شعارات "30 يونيو" حول التنمية المستقلة المعتمدة على الذات، التي ارتدت عباءة ناصرية وشعبوية بغرض الدعاية، واكتشف الجميع زيفها، ومعها سقطت أوهام بناء التنمية من دون ديمقراطية أو محاسبة أو مراجعة للأخطاء. ورغم دعم إقليمي ومنح وقروض وتقشّف، استفاق الكل على الأزمة، ومعها خطط طرح شركات للبيع، وقانون للاستثمار في قناة السويس، والتفريط في مؤسّسات حيوية وأماكن تاريخية، من أجل تسيير عجلة الاقتصاد المتعطّلة، وسلسلة من استحواذات خليجية في قطاعات الصحة والصناعة والغذاء، وبيع مؤسّسات كبرى وتحويل مصانع إلى أراضٍ تباع في المزاد، وآلات المصانع تباع خردة، بينما الدعاية لا تتوقف عن البناء والتنمية، وافتتاح مشاريع جديدة لم توفّر حاجاتٍ أساسية.
لم ينتج التضييق على المشاركة وحصار الفاعلين في المجال العام، فرصة لإحداث نموٍّ تصورته السلطوية والداعون إليها، من رجال أعمال ونخب راهنت على ضبط المجال العام لإحداث تعاف اقتصادي.
أنتجت السلطوية استبعاداً مزدوجاً، سياسياً واجتماعياً، واكتفت باستخدام آليات الديمقراطية قناة لوصول المؤيدين وتجميعهم في كل المؤسسات الرسمية. مع هذا كله يطالب المجتمع أن يدفع الثمن، ويتحمل نتائج الإخفاق، ويصدق التبريرات.
تحتاج مصر في مخاضها من الأزمة لبناء نظام سياسي، يحرّر إرادتها من ارتهانات خارجية وإقليمية، وداخلياً تحرّراً باختيار ممثليها في الحكم بشكل ديمقراطي
اليوم، وبعد ثماني سنوات على نمط حكم مغلق، ومرور 12 عاماً على الثورة، اتضح درس قاس أنّ المراهنة على السلطوية في إحداث التنمية وهمٌ تدلل عليه نتائج ما وصلت إليه الحالة الاقتصادية من ارتفاع معدّلات استدانة، يدفع إلى بيع الأصول والشركات، وإنشاء صناديق خاصة، وتوسع في فرض الضرائب، وارتفاع في التضخّم، وانهيار متتالٍ في قيمة الجنيه، بما يزيد أعباء الناس مع قوة شرائية تنهار. وكان المجتمع في حرب طبقية، كنتائج للسياسات الاقتصادية، واتّضح أنّ السلطوية، في نموذجها الاقتصادي، تحرير اقتصادي يعتمد على تعظيم الإيرادات من جيوب الناس لا الإنتاج، بيع الأصول الإنتاجية لا التوسع فيها ودعمها. ومن أجل إتمام خطواتها، تستخدم نموذجاً يمارس قمعاً مكثفاً، ويصادر الاختلاف، ويستهين بالنقاش والنقد وطرح البدائل، ويعتبر أنّه يمتلك الحلّ، رغم أنه من أنتج الأزمة.
نحن أمام نتائج واضحة في مصر، انهيار للعملة، احتمالات تصاعد البطالة، ارتفاعات للتضخّم متتالية، وإنتاج ضروري متعطّل مع أزمة النقد الأجنبي. ولا تبدو خطط معالجة الأزمة كافية، غير أنّها جاءت متأخّرة. ومع هذا كله، تتعمّق أزمة طبقات شعبية، بينما نسمع صدى الدعاية مستمرّاً وفرحاً بإنجازات لا تلامس واقعاً ثقيلاً تضيق به الصدور، مع الاستناد إلى شهادات دولية، عن تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي في تجاهل لنتائجه، أو تصور أنّ شبكة حماية اجتماعية ضعيفة تتمثل في برامج صرف مساعدات نقدية محدودة، ستخفّف الآثار، أو تصور أنّ المواطنين مرحبون بنموذج المواطن الذي يتحمّل الواجبات من دون حقوق، وهو الذي وعدته السلطوية بآثار التنمية والتغيير، شرط أن يصبر عاماً بعد عام.
وتحتاج مصر في مخاضها من الأزمة لبناء نظام سياسي، يحرّر إرادتها من ارتهانات خارجية وإقليمية، وداخلياً تحرّراً باختيار ممثليها في الحكم بشكل ديمقراطي، ليس وحسب تحرير الصناديق من خاطفيها، وإنما أيضاً في انتخابات تمثل الطبقات الاجتماعية ومصالحها، وتحاول تحقيق أهداف قطاعات شعبية انتفضت، وتبحث اليوم عن حلول. ومصر تحتاج تجاوز إرث السلطوية وآثارها الكارثية، وتعاليها وغطرسة أركانها، بما ينهى هيمنة مجموعة محدودة على اتخاذ القرار، ورسم السياسات الاقتصادية وصياغتها. باختصار، تحتاج مصر تجاوز (وطيّ) صفحة الصوت الواحد، الحاكم لكلّ فعل وخطوة، الذي كبّل الجميع وأدخلهم في هذا المأزق. ولا يمكن أن يبدأ ذلك إلّا بالتشخيص الصحيح المبني على مراجعة أخطاء الماضي، والفاعلين في المجال السياسي قبل حتى الانشغال بنقد الحاضر وسياسات السلطة.