عودة إلى "المستبد العادل"
منذ نجاح بعض الدول العربية في إنهاء الحكم الرئاسي بعد الهبات الشعبية في 2011، بدأ الحديث عن دساتير برلمانية لا تتيح لرجل واحد التحكم بالسلطة، بعد ما عانته هذه الدول، وغيرها، من تسلط الشخص وتفرده في اتخاذ القرارات. في الظاهر، كانت هذه الخطوة مثالية في طريق الانتقال من حكم الفرد إلى حكم المجموعة، أي الرئيس والحكومة والبرلمان ومعهم الأحزاب الممثلة وغير الممثلة في المجالس النيابية. غير أنه في الباطن، لا يبدو أن الشعوب العربية جاهزة حاليا لمثل هذا النوع من الحكم، ولا تزال تحن إلى حكم الفرد، رغم ما يحمله من عودة إلى الاستبداد، والذي من المفترض أن هذه الشعوب ثارت عليه.
كان من المعروف أن التحول إلى النظام البرلماني لن يكون سهلاً لشعوب اعتادت حكم الرجل الواحد، وخصوصا أن مثل هذا النظام من الطبيعي أن يخلق تعارضا بين الاستراتيجيات والأفكار المختلفة للمكونات السياسية الحديثة الولادة، والتي من المؤكد أنها تحتاج إلى الكثير من التدريب والتأقلم، قبل بلوغ مرحلة النضوج السياسي الحقيقي الذي يؤدي إلى التسليم بحكم الأغلبية إلى حين. وهذا ما عاشته العديد من الدول العربية في فترة ما بعد الثورات، وأدى إلى نكسات في ما كان من الممكن أن يكون مساراً ديمقراطياً مؤسساً لمرحلة التحول إلى الدولة الحديثة.
ومن دون التقليل من التأثيرات الخارجية لبعض الدول المعادية للديمقراطية، والتي موّلت إلى أقصى حد الثورات المضادة، غير أن هذه الدول وجدت الأرضية الشعبية والسياسية غير المستعدة الآن للتحول الكلي إلى النظام المتعدد القابل لتداول السلطة سلمياً. فالانتفاضات العربية، والتي تحوّلت إلى "الربيع العربي"، لم تقم بالأساس لتطبيق نظام ديمقراطي، مع أن هذا المطلب كان غاية فئات قليلة مشاركة فيها، بل قامت ضد الظلم والفساد الذي ولّد الفقر والجوع والبطالة. فإقامة النظام الديمقراطي بشكله الحديث بحاجة إلى أرضية تثقيفية تأسيسية لم تكن متاحة أمام هذه الشعوب، ولم يتم العمل على إيجادها بعد انتصار بعض الثورات، بل جرى التحول مباشرة إلى الممارسة السياسية الجديدة، وكأن الأرضية مهيّأة لتقبل هذا التغيير، وهو ما اتضح أنه غير صحيح.
من التجارب التي عاشتها بعض الدول العربية التي خرجت من ثورات، وتحديداً مصر في عام 2013 واليوم تونس، يتضح أن المزاج الشعبي العام يميل إلى فكرة "المستبد العادل" التي نظّر لها الإمام محمد عبده، وفصّلها المفكر محمد عابد الجابري. وهي الفكرة التي انحرفت مع الزمن إلى نظام حكم الفرد، وجسدها العديد من الرؤساء العرب الذين تحولوا مع الزمن إلى رموز للديكتاتورية، إذ تحول الاستبداد من مفهومه اللغوي القائم على "الحزم" و"الجرأة"، كما يشرح الجابري، إلى "الطغيان"، وهو ما مارسه كل الزعماء العرب الذين امتطوا الفكرة نظرياً للوصول إلى الحكم. ورغم الفرق بين مفهومي الاستبداد والطغيان من المنطلق اللغوي والتراثي العربي، إلا أنه لا يبدو أن هناك قدرة شعبية على التمييز بينهما، خصوصاً عندما يتم تطعيم الطغيان بمقادير من الشعبوية، وهو الذي مارسه زعماء عرب في الطريق إلى انقلابهم على محاولات التحول الديمقراطي التي وُلدت بعد الثورات العربية.
نموذج واضح أمامنا اليوم حول هذه الممارسات، هو انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر، والذي أعاد البلاد سنوات طويلة إلى الوراء سياسياً، وهو أمر لا خلاف عليه حتى لو اختلفت النظرة إلى النتائج الاقتصادية والتنموية التي أنتجها الانقلاب وسياساته، فلا خلاف على أن مرحلة الحريات والتعددية انتهت في مصر، فلا صوت إلا صوت النظام.
اليوم تونس بعد قرارات الرئيس قيس سعيّد تسير على الخطى نفسها، حتى وإن اختلفت الأدوات. قد تكون تونس ليست مصر، كما يحاول بعض أهل البلاد تبرير قرارات الرئيس، لكن المعطيات بين حدثي 2013 و2021 هي نفسها، وهي الانقلاب على التعددية الممثلة في البرلمان، تمهيداً لإعادة صورة "المستبد العادل" المقبولة شعبياً.