عودة إلى 17 ديسمبر و14 يناير التونسيين
أكثر ما يتمنّاه قيس سعيّد ألّا يبقى الحدث التونسي حدثاً. أن يمرّ بلا ضجيج ولا مقالات ولا صخب. يريد أن يكون الاهتمام الإعلامي والسياسي والشعبي الضئيل بانتخابات ــ مهزلة كالتي جرت يوم السبت الماضي نموذجاً لتغطية أحداث مستقبلية، وفي باله حسرة الاهتمام الزائد الذي ناله حلّ البرلمان والانقلاب على المؤسسات وتدجين القضاء وتعيين مومياءات في مناصب رئيسية وكتابة خربشات يرغب بتسميتها دستوراً، وتثبيت قاعدة أنّ الإعلام عبد للسلطة، وأنّ مصير المعارضين المحاكمات أمام القضاء العسكري. يرغب أن يصبح خجل التونسيين من أنّ رئيسهم هو قيس سعيّد عادياً، فالتطبيع مع الإهانة هو كالتطبيع مع الفقر والتسلط، مفتاح لكلّ المقابر. ولأنّ الحظّ رفيق المتسلطين الوضيعين في معظم الأحيان (اسألوا بشار الأسد)، فقد شاء أن تُجرى انتخاباته البائسة في ظروف انشغال العالم باختتام حدث كبير يخطف اهتمام الإعلام والناس والسياسيين بحجم مونديال قطر.
مرّت الانتخابات كأنّها لم تكن، بنسبة مشاركة تنمو مع مرور الساعات منذ إغلاق صناديق الفضيحة. الاثنان في المائة اللذان رصدتهما المعارضة، كبرا ليصبحا 8.8% طيلة يومي السبت والأحد وفق الرواية الرسمية. ومع حلول عصر يوم الإثنين، انتفخت تلك النسبة لتصبح 11.22%. أما وأنّ قيس سعيّد الذي يتسبب وجوده، من ضمن ما يتسبب به، بإحراج لكل من هو حريص على تونس ديمقراطية ومتطورة ومزدهرة، نجح مرة أخرى في ارتكاب ما يريده بحق القوانين والعقل والتجربة الرائدة عربياً في الانتقال الديمقراطي، فربما وجبت العودة إلى التاريخ الذي اختاره سعيّد لانتخاباته. 17 ديسمبر/كانون الأول من كل عام هو التاريخ الذي قرر سعيّد أن يحلّ محلّ 14 يناير/ كانون الثاني كعيد للثورة. وبين 17 ديسمبر (2010) و14 يناير (2011) أكثر من 28 يوماً. في التاريخ الأول، انفجر الغضب الشعبي ممثلاً بالمواطن محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد. غضب تمّت إدارته بحكمة وبحماسة وبحسن تنظيم وبتعبئة استثنائية، وبموقف محمود من المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتفاعَل إيجاباً وصولاً إلى 14 يناير، تاريخ هروب زين العابدين بن علي بما يحمله ذلك الهروب من رمزية للنجاح، نجاح الثورة. ولما كان 14 يناير رمزاً للتغيير، والتغيير هو الهدف الأسمى للثورة، كل ثورة، فإنّ كره قيس سعيّد لهذا التاريخ يصبح من طبيعة الأمور، ومن علامات المنطق السليم.
هذه الشخصية التي كانت كاريكاتيرية قبل أن تصبح إهانة متنقّلة، ضحكت على كثيرين من التونسيين بشعار 17 ديسمبر، "الشعب يريد". شعار ما إن يُزاح من سياق أول أيام الثورة، حتى يصبح عنواناً للشعبوية. حمل صاحب "الشعب يريد" شعاره ودار به ليبشّر بالنظام المجالسي المستوحى من هلوسات مَن لا يُستبعد أن يكون مثالاً أعلى له، معمر القذافي، فلم ينل من المستمعين إليه إلا تمتمات من نوع "المهم أنه ضد الإسلاميين"، أو "المهم أنه ضد نبيل القروي" تُتلى بالتزامن مع وضع اسمه في انتخابات خريف 2019. وقيس سعيّد ذاك، عندما أراد تبرير تغيير تاريخ عيد الثورة من 14 يناير إلى 17 ديسمبر، سرد كل أسرار شخصيته الحالمة بالتسلط. قال إن "الانفجار الثوري انطلق من سيدي بوزيد، ولكن للأسف تم احتواء الثورة حتى يتم إقصاء الشعب عن التعبير عن إرادته وعن الشعارات التي رفعها". "الانفجار الثوري انطلق من سيدي بوزيد" يعني 17 ديسمبر. أما أنه "تم احتواء الثورة..." فإنما هو يحيل بالتأكيد إلى 14 يناير، التاريخ الحقيقي لبدء مسار الانتقال الديمقراطي الذي يلي الثورة مثلما يجدر أن يحصل. حينها، في 14 يناير، بدأ التفكير بما يجب فعله لبناء تونس ديمقراطية حقاً، بدستور محترم وقوانين راقية وحياة سياسية وأحزاب تستحق اسمها. وهذا كله يكرهه قيس سعيّد: الدستور والأحزاب والسياسة والانتخابات والديمقراطية، وفوقها اللغة العربية التي لا يفعل سوى إهانتها في كل مرة يقف كالصنم ويتهجى أحرفها حالماً بأن يكون المواطنون المستمعون تلامذة مدرسة ابتدائية زمن التعليم بالسوط.