عودة معرض الكتاب من بوابة "30 يونيو"
لماذا يخاف عبد الفتاح السيسي ويهرب من كل شيء له صلة بشكل يناير وثورة يناير. وليس مستغربا، ولا بعيدا، أن يحذف مواليد يناير من بطاقات التموين أيضا، ويمنح كل مواليد 30/ 6 "تمناية"، أو "بسكلاته". في يناير من كل عام، كان معرض القاهرة للكتاب حديث الثقافة في الوطن العربي، وحديث ضيوفه كل شتاء من كل بلاد الوطن العربي، فرحا بالكتاب والإصدارات الجديدة من دور النشر كافة. فرح ثقافي أو "عرس ثقافي"، على حد تعبير "صحافة مبارك"، عرس امتد 52 سنة لا يحيد عن يناير أبدا، حتى جاءت الثورة في 25 يناير/ كانون الثاني 2011، فشكّل اسم يناير أزمة وسرطانا للسلطة، فكيف السبيل إلى محوه، لا إعلاميا فقط، بل ثقافيا أيضا، ولو استطاعت السلطة الوصول إلى الذاكرة الجمعية لشطبتْه تماما.
ملحوظة أولى: أغلب مثقفي مصر آمنوا بثورة يناير، حتى من كان على حجر السلطة منهم أو يعمل موظفا. ولا ننسى أن عماد أبو غازي استقال من منصبه وزيرا للثقافة، اعتراضا على قتل ثوّارها. وفي بيت كل مثقف مصري تجد صورة له وهو في مظاهرة هنا أو هناك، ولا سيما ميدان التحرير. قد تُحرج السلطة، وتمحو يناير من أرشيف بهجتها لمائة سنة مقبلة خوفا ورهبة... هل صارت بوابة يناير مؤلمة للسلطة إلى هذا الحد؟ فكان لا بد من تغيير موعد معرض الكتاب، إلى 30/ 6؟، لاحظ أن حجة كورونا واهية تماما، لأننا الآن في "محنة دلتا" التي عمّت مائة دولة، فهل يمكن مثلا كتم أنفاس أغنية "يا بلح زغلول" أيضا إلى الأبد، على الرغم من أنها لا تغنّي لا ليناير ولا لشكله المؤلم للسلطة، ولكنها تخصّ سعد زغلول، وسعد مات وشبع موتا، وصفية أيضا، والوفد تم تحويله إلى حديقة مانجو، وورد، وشرب الشاي بالزعفران، وتذكّر بطولات الأيام الخوالي.
لاحظ أن خوف السلطات لم يكتف بالخوف من يناير فقط، بل امتد إلى الميادين أيضا، فميدان رابعة العدوية تحول إلى ميدان النائب العام الراحل هشام بركات. ولا أعرف ميدان النهضة تحول إلى أي اسم. وقد يتم تغيير اسم تمثال النهضة أيضا، بل ويمكن محوه أيضا كما تم محو ميدان اللؤلؤة في البحرين، ورمي رخامة وخرسانته في البحر، حتى منصّة ميدان التحرير الذي حافظت السلطة على صف أتباعها فيه بالأجر والشماسي والنظارات السوداء، ورمت على رؤوسهم كوبونات الثلاجات والبوتاغازات والمراوح الكهربائية، وهم في انتظار الكاميرات و"قبض المعلوم"، تحول إلى سارية علم عملاقة تنافس برج الجزيرة، إمعانا في غسل الذاكرة من الأغاني التي "صهللت" بها الثورة، خلال 18 يوما خلعت فيها حسني مبارك بعد 30 سنة، فهل "حرقة الخلع" سارية المفعول في ذاكرة السلطة إلى هذه الدرجة المرعبة؟
ملحوظة ثانية مهمة: معظم من غنّى للثورة وألف ودندن ولحّن، وبات في الخيام يؤلّف المشهد و"يمسرحه"، كان من المثقفين وشباب المسرح وكتّاب الأغاني وهواة الكتابة، ابتداء من أحمد فؤاد نجم، وعزّة بلبع، إلى كل ألوان طيف الثقافة والفن من الشاب الذي رأى الثورة أول مرة وبهجتها، إلى جميل راتب وهو يخطو إلى التسعين من عمره، فكيف استطاعت سكّين السلطة أن تظاهر الذاكرة بكل هذا الرعب، والجلافة أيضا، إلى الدرجة التي تجعل صحيفة "أخبار الأدب" الغرّاء التي كان معظم محرّريها وموظفيها في الصفوف الأولى لثورة يناير، وإذا بهم، بالأمر المباشر، يتحوّلون، في غمضة عين، في عددهم أخيرا من الجريدة بعنوان وحيد بالبنط العريض "الطريق إلى المعرض".
أعرف أن لقمة العيش مرة، بل في منتهى المرارة، والذي يعطي جوائز دبي للصحافة كل سنة بالدولار لشبيبة المحرّرين لا يُنسى له واجب أو فضل، وأن اليد التي تعطي القمح والجوائز طول السنة تعرف أيضا كيف تسن السلاح "بالذوق أو بالعافية"، في 30/ 6. ورحم الله العرس الديمقراطي الذي كان يستمر شتاءً وتُساق له الإبل، والبعران محمّلة بالكتب والمراجع والحوارات. الآن مع هذا الصهد، على البعران أن تتوجه مباشرة إلى أقرب مكان بجوار مسجد المشير، كي تنال البركة. وفي الشتاء، نؤلف الكتب ونأخذ الجوائز من دبي، والله كريم بالطبع، وفي منتهى الكرم، وأشهر السنة كلها بين يدي الله يقلبها كيف يشاء، والإنسان مسيّر في كل أموره وليس مخيرا. وفي حرارة يوليو تتم البركات، والله أعلم.