عيد يهودي واستفزاز إسرائيلي ومواقف عربية
يحتفل اليهود هذه الأيام بما يسمى عيد الحانوكا (عيد الأنوار). يستمر ثمانية أيام، بداية من الخامس والعشرين من شهر كسليف العبري (يتوافق مع نهايات شهر نوفمبر/ تشرين الثاني ويمتد إلى شهر ديسمبر/ كانون الأول). وقد وافقت بداية العيد هذا العام يوم 29 نوفمبر، واستمر حتى يوم أمس، السادس من ديسمبر. وعلى الرغم من أنّ "الحانوكا" من الأعياد الثانوية في اليهودية، إلّا أنّه يفوق، في شعبيته عند اليهود، أعياداً أخرى، كالفصح أو رأس السنة أو يوم الغفران. وترجع هذه الشعبية الكبيرة إلى ارتباط هذا العيد بمناسبة سياسية مهمة في التاريخ الإسرائيلي، إذ يعود الاحتفال به، حسب رواية سفر المكابيين (من أسفار الأبوكريفا أو الأسفار غير القانونية في اليهودية)، إلى ذكرى إعادة افتتاح ما يعرف بالهيكل الثاني في "أورشليم" عام 165 ق.م. بعدما فرض أنطيوخوس الرابع أبيفانيس، وهو الحاكم السلوقي لمنطقة سورية خلال العصر اليوناني، قرارات تمنع اليهود من العمل بالتعاليم اليهودية؛ كإلزامهم بمنع الختان، وتدنيس السبت والأعياد، وذبح الخنازير، إضافة إلى تدنيس معبد اليهود بوضع الأوثان داخله، ومحاولة التسوية بين عبادة زيوس ويهوه. ولكن اليهود رفضوا ذلك، وثاروا على هذا الوضع بقيادة متتيا الكاهن، وأعقبه ابنه يهوذا المكابي، وتمكّنوا من استعادة الهيكل وتطهيره في الخامس والعشرين من شهر كسليف العبري، وأعادوا تدشينه. وكانت الثورة، في بدايتها، موجهة ضد اليهود المتأغرقين الذين قبلوا قرارات أنطيوخوس، لكنها، في ظل دعم الرومان لها، سرعان ما تحوّلت لتصبح ضد حكم السلوقيين الإغريق. وفي غضون وقت قصير، تمكّنت من الاستيلاء على أورشليم وتطهيرها والاحتفال بعيد الحانوكا.
"الحانوكا" عيد سياسي بامتياز، بعكس الأعياد الأخرى، الأمر الذي يجعله يحتل مكانةً متقدّمة للغاية، من حيث أهميته عند الحركة الصهيونية
لا يهمنا كيف تمكّن السلوقيون لاحقا من هزيمة المكابيين وقتل يهوذا المكابي، ولا كيف عاد اليهود المتأغرقون للسيطرة على "أورشليم"، والانتقام من أنصار ثورة المكابيين، ولا كيف عاد المكابيون في ما بعد للسيطرة على "أورشليم"، والحصول على حكم ذاتي لليهود تحت حكم السلوقيين. ما يهمنا هنا أن "الحانوكا"، كما يوضح هذا الموجز التاريخي، عيد سياسي بامتياز، بعكس الأعياد الأخرى، الأمر الذي يجعله يحتل مكانةً متقدّمة للغاية، من حيث أهميته عند الحركة الصهيونية؛ حيث النظرة إليه أنه عيد استقلال نجح فيه الأجداد في الحصول على الاستقلال من السلطات اليونانية. في هذا السياق، يقول الصحافي عميت سيجال: "هناك شعوب ليس لديها يوم استقلال، فقد كانت مستقلّة دائماً، وشعوب أخرى لديها يوم استقلال واحد، أما نحن فلدينا يوما استقلال، في الخامس عشر من مايو/ أيار، وفي الخامس والعشرين من كسليف؛ لقد كان الحانوكا هو عيد الاستقلال عن اليونان".
يكون الاحتفال بالعيد بإضاءة الشمعدان ذي التسع شمعات الذي يسمّى بالعبرية المنورا، أو حنوكيا؛ إذ تكون واحدة من الشمعات التسع مرتفعة أو منخفضة عن مستوى باقي الشمعات. وهذه الشمعة هي التي تستخدم في إيقاد باقي الشموع واحدة كل ليلة من الثماني شمعات الأخرى؛ حيث يبدأ إيقاد الشمعة الأولى ليلة 25 كسليف التي وافقت 28 نوفمبر هذا العام، حتى يتم إيقاد كل الشموع. وعادةً ما يتناول اليهود في هذا العيد أطعمة تعتمد على الزيت بدرجة كبيرة؛ فيتناولون نوعاً من الفطائر يشبه الدونتس، تُقلى في الزيت وتكون محشوة بالمربّى أو الجيلي تسمى سوفجانية، أو نوعا من فطائر تصنع من البطاطس، وقد يضاف لها الجبن أحياناً، وتصاحب ذلك أهازيج وأغان تذكّر المحتفلين بهذا اليوم.
شهد الاحتفال بالعيد هذا العام أمورا أكثر استفزازاً من الأعوام السابقة؛ من ذلك زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ قبر الحاخام الإسرائيلي الإرهابي باروخ غولدشتاين، ووضع باقة من الزهور عليه، علماً أنّ غولدشتاين هو من ارتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي في فبراير/ شباط 1994، وراح ضحيتها 29 شهيداً في أثناء أدائهم صلاة الفجر، إضافة إلى عشرات الجرحى من المصلين. وفي خطابه بعد زيارته، قال هيرتسوغ إنّه "رئيس للجميع". ثم علق رئيس القائمة العربية المشتركة في الكنيست أيمن عودة، في تغريدة له: "هرتسوغ لم يذهب لإيقاد الشمعة الأولى، بل ذهب ليشعل مدينة الخليل، من يحتفل مع محبي القاتل غولدشتاين لا يمكن أن يكون رئيساً لكلّ مواطني الدولة".
لم يخرج الموقف الإماراتي عن المتوقع؛ إذ نشرت سفارتها في إسرائيل، عبر صفحتها على "تويتر"، تهنئة للشعب الإسرائيلي بعيد الحانوكا
كان أمام الدول العربية المطبّعة مع إسرائيل إدانة زيارة رئيس دولة الاحتلال قبر غولدشتاين، فضلاً عن تدنيسه الحرم الإبراهيمي في الخليل، أو السكوت على الأقل وعدم التهنئة بهذا العيد. اختارت البحرين السكوت، سواء على صفحة سفارتها في إسرائيل، أو صفحة سفيرها هناك خالد الجلاهمة، وإن لم يمنع ذلك مسؤولين بحرينيين من المشاركة في احتفال بالعيد في السفارة الإسرائيلية في المنامة. أما الموقف الإماراتي فلم يخرج عن المتوقع؛ إذ نشرت سفارتها في إسرائيل، عبر صفحتها على "تويتر" في اليوم التالي لزيارة هرتسوغ الحرم الإبراهيمي ووقوفه على قبر غولدشتاين، تهنئة للشعب الإسرائيلي بعيد الحانوكا، وهو ما قابله الإسرائيليون بالمثل ورد التهاني بمناسبة اليوم الوطني للإمارات. وفي المقابل، صدرت بيانات إدانة من السعودية والأردن وقطر والكويت، باعتبار ما حدث انتهاكاً صارخاً لحرمة المسجد الإبراهيمي من رئيس الكيان الإسرائيلي، مثلما جاء في البيان السعودي، أو تعدّياً سافراً على المقدسات الإسلامية، واستفزازاً لمشاعر ملايين المسلمين، كما في بياني قطر والكويت.
ويلاحظ احتفاء الصحافة الإسرائيلية والمغرّدين هناك بأي صوتٍ عربيٍّ شاذ يخالف التيار العربي العام الرافض للصهيونية وللتطبيع مع إسرائيل؛ إذ يسجّل الصحافيون الإسرائيليون إعجاباً بتغريدات هذه الأصوات التي تبارك لإسرائيل وشعبها بمثل هذه المناسبات. ويحدث، أحياناً، اللجوء لصور قد تكون مفبركةً من أجل إعطاء انطباع بتغير الشعوب العربية بما يتناسب مع الأهداف الصهيونية؛ وهذا كثيراً ما يفعله الصحافي الإسرائيلي، روعي كايس، بغرض تحقيق سبق صحافي؛ إذ علق على صورة ادّعى أنها لإيقاد شموع المنورا في الكويت بقوله: "حتى في الكويت الخليجية التي لا تقيم علاقات مع إسرائيل يوقدون الشمعة الأولى للحانوكا".
وبغض النظر عن صحّة مثل هذه الصور أم لا، للأسف أنّ ثمّة أصواتاً عربية أصبحت أكثر جرأة في التعبير عن وقوفها في المربع الإسرائيلي، وهو ما يستدعي مواجهة شعبية تجاهها، حتى لا تتحول إلى ظاهرة في ظلّ تشجيع بعض الأنظمة العربية أو مشاركة بعضها الآخر بالسكوت عليها.