عين الحلوة وتفسّخ الفكرة الوطنية الفلسطينية
ما جرى في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان في نهايات الشهر الماضي (يوليو/ تموز) وأوائل أغسطس/ آب الحالي ليس مجرّد اشتباك بالسلاح بين فلسطينيين، أو قتال بين حركة فتح وفصائل أخرى، بل هو محاولة للاستيلاء على المخيم. وهذه المحاولة الدموية تولّتها مجموعات مرتبطة بمنظمات إرهابية من عيار "داعش" أو هيئة تحرير الشام، وتكني نفسها بأسماء قديمة وجديدة مثل "جند الشام" و "كتائب عبد الله عزام" و"الشباب المسلم" وفلول "فتح الإسلام". وليست هذه المحاولة الأولى في أيّ حال؛ فقد استولى شاكر العبسي في سنة 2007 على مخيم نهر البارد، وكان من نتيجة ذلك دمار المخيم وتشريد سكّانه. وحاول جمال سليمان السيطرة على مخيم المية ومية، وارتكب في سبيل ذلك جرائم قتل مروِّعة، وكان مصيرُه الطرد من المخيم. ولولا الحماية التي وفّرها له حزب الله لكان قُتل ومَن معه. وغير بعيد عن ذلك محاولة "جند الشام" التابعة لبلال بدر المتمركزة في حي الطيرة في عين الحلوة منع القوة الأمنية المشتركة من الانتشار في المخيّم، وطورت معركتها إلى محاولة الاستيلاء على الأحياء المجاورة، وانتهت المعارك في سنة 2017 بفرار بلال بدر من حي الطيرة بعدما خلّف وراءه الدمار والعثار والعار. ومن نافل القول في هذا الميدان إن سيطرة جماعات قاعدية أو داعشية على عين الحلوة، أو على أي مخيّم آخر في الجنوب اللبناني، أمر خطير جدًا؛ فهؤلاء سيثيرون بالتأكيد اشتباكاتٍ ضد الشيعة، وسيشكّلون خطرًا أمنيًا داهمًا على الأمن الوطني اللبناني، سيما أن "عين الحلوة" يقع غير بعيد عن الطريق الرئيس الذي يصل بيروت بالجنوب اللبناني، والذي تستعمله قوات الأمم المتحدة العاملة في لبنان (يونيفيل) يوميًا، وكذلك حزب الله.
ما جرى، وما سيجري لاحقًا، هو المحصلة البدهية والمنطقية لعودة المطلوبين المتطرّفين إلى المخيم مستخدمين استراتيجية الأفعى، أي التسلّل عبر الشقوق، برعاية قوى استخبارية عديدة. ففي الآونة الأخيرة، عاد إلى المخيم عيسى حمد الذي أُصيب مع عبد الرحمن فرهود (أبو قتادة) برصاص محمد زبيدات. وكانت تلك الحادثة الشرارة التي أحرقت المخيم. وعلاوة على عيسى حمد، عاد أيضًا نضال المقدح وخالد جمال الشريدي، وسهّل لهما العودة إلى المخيم، بحسب معلوماتٍ متينة، شخصٌ له صلات وثيقة مع جهات استخبارية تركية. كذلك عاد إلى الظهور علنًا في بعض أحياء المخيم أحمد عبد الكريم السعدي (أبو محجن) قائد "عصبة الأنصار" والمحكوم بالإعدام بجريمة اغتيال أربعة قضاة لبنانيين على قوس المحكمة في سنة 1999. وبات الناس يشاهدون في المخيم مغاربة ويمنيين وسوريين وعراقيين، فضلاً عن اللبنانيين، وهؤلاء ينتمون إلى مجموعاتٍ قاعدية وداعشية فرّ أعضاؤها من سورية والعراق إلى لبنان. وحوّل هؤلاء مع مضيفيهم الفلسطينيين المخيم ملعبًا تتبارى فيه أجهزة أمن لبنانية وعربية وغير عربية (إيرانية وتركية)، حتى أن بعض الفلسطينيين من سكان عين الحلوة يتندّرون بأسى على أحوال مخيمهم فيسألون بتهكّم ومرارة: ما هو أكبر تنظيمٍ في المخيم؟ ويُجيبون: إنه تنظيم المخابرات. والمعروف أن فلسطينيين ذهبوا إلى العراق للقتال، وعاد بعضُهم إلى المخيّم لتأسيس خلايا للقاعدة. وقُتل في أثناء المعارك في العراق كثيرون، أمثال إبراهيم صالح القبلاوي ونضال حسين مصطفى (أبو حذيفة) ومحمد أحمد الكردي (أبو محمود) وسمير حسنين (أبو حمزة) وعمر الحايك وعمر ديب السعيد وأحمد محمد ياسين (أبو هارون) وأحمد علي عوض (أبو سمرا) وحسن جمال سليمان ومحمد زيدان، وأحد الشبان من آل أبو النعاج.
الحنجلة الدامية
الحنجلة بالعامية هي أول الرقص، أي الحركات التمهيدية التي يقوم بها الراقصون قبيل اشتعال الأرجل والأكفّ. وكان أول تمرينٍ على الإرهاب الدموي الذي غمر لبنان بعد توقّف الحرب الأهلية هو نسف مبنى الكوليدج هول في الجامعة الأميركية في سنة 1991. واعتُبر ذلك العمل الإرهابي رسالةً أولى لإعلان بدء العمليات العسكرية للجماعات المتطرّفة. وفي 22 22/6/1993 وضع شبّان من بلدة القلمون اللبنانية عبوة ناسفة تحت جسرٍ يؤدّي إلى جامعة البلمند الأرثوذكسية، وكانت الغاية قتل عدد من البطاركة المشاركين في مؤتمر فكري تعقده الجامعة. آنذاك، كانت الحرب مشتعلةً في صربيا، والقتال بين الأرثوذوكس ومسلمي البوسنة والهرسك في ذروته. لكن العبوة انفجرت بواضعيها، فقُتل أحدُهم وأُصيب آخر واعتقل آخرون، وانكشف الأمر. ولعل الحدث الأبرز في مسار الجماعات المتطرّفة في لبنان كان الاشتباك الذي وقع ليلة رأس السنة في عام 2000 بين ما سُمّيت "مجموعة الضنية" والجيش اللبناني، والذي دام ستة أيام متواصلة. ومجموعة الضنية تلك سيكون لها تأثير كبير في أوضاع مخيم عين الحلوة، وهي أول مجموعة لتنظيم القاعدة في لبنان التي أسّسها اللبناني بسام كنج (أبو عائشة) ومعه بسام إسماعيل حمود (أبو بكر). وقد قُتل في معركة جرود الضنية بسام كنج واعتقل بسام حمود، وفرّ من بقي حيًا من تلك المجموعة إلى مخيم عين الحلوة، وتولّى غاندي السحمراني (أبو رامز الطرابلسي) قيادة فلول الهاربين، بعدما وجدوا مَن يحميهم ويقدّم لهم الرعاية والأمان.
أول تمرينٍ على الإرهاب الدموي الذي غمر لبنان بعد توقّف الحرب الأهلية نسف مبنى الكوليدج هول في الجامعة الأميركية في سنة 1991
ومنذ معركة جرود الضنّية في شمال لبنان راحت المجموعات القاعدية تتناسل في المدن اللبنانية وفي بعض المخيمات الفلسطينية، ونشأت في غضون تلك الحقبة مجموعات اتّخذت لها أسماء تدلّ على هويتها مثل "جند الله" و"جند الشام" و"عصبة الأنصار" ثم "كتائب عبدالله عزّام" وغيرها. ومع الاحتلال الأميركي للعراق في سنة 2003 نشط سلفيون كثيرون مرتبطون بالقاعدة في تجنيد شبّان، فلسطينيين ولبنانيين، وإرسالهم إلى العراق لقتال الجيش الأميركي. وعُرف من بين هؤلاء إسماعيل محمد الخطيب من بلدة مجدل عنجر اللبنانية الذي أوقف في سنة 2004 بينما كان يخطّط لتفجير السفارة الإيطالية في بيروت، وتوفي في السجن في أثناء التحقيق معه. وفي سنة 2005 أطلقت السلطات اللبنانية عددًا من موقوفي الضنية أمثال إيهاب البنا في سياق صفقة إطلاق سمير جعجع، المحكوم بالمؤبد بجريمة اغتيال داني شمعون وغيره.
البدايات الأكثر جدّية في نشوء الجماعات الإرهابية في لبنان شهدها العام 2005. ففي ذلك العام، أثار أيمن الظواهري فكرة إقامة "سوريا الكبرى الإسلامية" (لبنان وفلسطين والأردن وسورية)، ووجّه في إبريل/ نيسان 2007 رسالة في هذا الشأن إلى أبو حمزة المهاجر (أمير القاعدة في العراق الذي خلف أبو مصعب الزرقاوي) يحثّه فيها على توسيع نطاق عملياته نحو بلاد الشام. ومنذ ذلك الحين، تصاعدت حمّى تأليف خلايا القاعدة في لبنان وسورية والأردن والمخيّمات الفلسطينية. ولتعزيز هذا الاتجاه، دعا أيمن الظواهري في 14/2/2007 إلى إعلان الجهاد في لبنان، وإلى عدم الإذعان لقرار مجلس الأمن 1701 الذي أبصر النور بعد حرب 2006. وسارع مجلس شورى المجاهدين في العراق إلى اتخاذ قرار يقضي بنقل الجهاد إلى لبنان. وعلى الفور، راح مئات من المقاتلين السعوديين والأردنيين والفلسطينيين والسوريين ومعهم لبنانيون يتدفقون على المناطق اللبنانية، بما في ذلك المخيمات، من المعابر المختلفة. وفي 22/4/2007 دعا أيمن الظواهري "الجهاديين" إلى ضرب قوات الأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان (يونيفيل) باعتبارها "قوات صليبية".
التطرّف الفلسطيني
بدأت الجماعات السلفية المتطرفة تظهر في المخميات الفلسطينية بعد مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية لبنان في سنة 1982، وكان أبرز شيوخها آنذاك ابراهيم غنيم من بلدة صفورية الذي أعلن في سنة 1984 تأسيس "الحركة الإسلامية المجاهدة" التي تعاونت مع إيران وحزب الله، وكان من أركانها عبد الله الحلاق وجمال خطّاب. لكن العام 1991 حمل معه تغيراتٍ هائلة في المجال الدولي والاقليمي، كان من شأنها إطلاق فاعلية تلك الجماعات بطرائق مدمّرة. ففي ذلك العام، غزت أميركا الخليج العربي لإخراج الجيش العراقي من الكويت (عملية عاصفة الصحراء)، فعاد آلاف من الفلسطينيين من الكويت إلى مخيّماتهم، ووجد هؤلاء أنفسهم وقد أصبحوا عاطلين من العمل، فراحوا يبحثون عن مخارج من أوضاعهم. وفي الفترة نفسها، وجرّاء اندلاع التقاتل بين "المجاهدين الأفغان"، بدأت عودة من سُمّوا "الأفغان العرب" إلى لبنان وإلى المخيّمات الفلسطينية. وكان لهؤلاء الأثر المباشر في إمداد المخيمات بأعدادٍ مهمّة من الشبّان، وفي اتساع ظاهرة السلفية الجهادية في الأوساط السُنّية اللبنانية والفلسطينية معًا. وفي معمعان تلك التحوّلات، بل قبيل ذلك، أسّس هشام الشريدي "عصبة الأنصار" في سنة 1987، لكنه لم يلبث أن اغتيل في سنة 1991، فتولّى أحمد عبد الكريم السعدي (أبو محجن) إمارة العُصبة.
ومنذ ذلك الوقت تقريبًا، حلّ البلاء على المخيمات التي لم تكن قد تخلصت بعدُ من كابوس الحرب عليها (1985-1987) حتى تقاطرت عليها الويلات من تلك الجماعات الفاشية. ففي سنة 1995 اغتال شبّان من "عصبة الأنصار" الشيخ نزار الحلبي رئيس جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش)، وقُبض على المنفذين الذين أُعدم ثلاثة منهم، وما برح أبو محجن متواريًا في عين الحلوة منذ 28 عامًا، فيما يسوس العصبة ظاهريًا وفيق عقل (أبو شريف). وفي 1999 اغتال عبد الله الشريدي من عصبة الأنصار الفتحاوي أمين كايد مع زوجته فادية العاصي بشبهة المسؤولية عن اغتيال والده هشام الشريدي، ولم يطل الأمر حتى اغتيل عبد الله نفسه في سنة 2003. وكانت مجموعة من "عصبة الأنصار" اغتالت أربعة قضاة لبنانيين فوق قوس المحكمة في صيدا في سنة 1999 انتقامًا من القضاء اللبناني، لإعدامه ثلاثة من الذين اغتالوا الشيخ نزار الحلبي. وفي سنة 2000 قام أحد مقاتلي "عصبة الأنصار" بالهجوم المسلح على السفارة الروسية في بيروت احتجاجًا على سياسة روسيا في بلاد الشيشان.
دعا أيمن الظواهري في 14/2/2007 إلى إعلان الجهاد في لبنان، وإلى عدم الإذعان لقرار مجلس الأمن 1701 الذي أبصر النور بعد حرب 2006
توارى مطلوبون كثيرون بجرائم مختلفة في أحياء معينة من عين الحلوة، حيث وجدوا الرعاية والحماية والتمويل من "أمراء" الجماعات القاعدية. ومثال ذلك اللبناني بديع حمادة (أبو عبيدة) الذي قَتَل ثلاثة عسكريين لبنانيين في منطقة التعمير المحاذية للمخيم في سنة 2002، وقد سُلّم لاحقًا إلى الجيش اللبناني فأُعدم في سنة 2004. واختبأ في عين الحلوة في سنة 2000 اللبناني أحمد الميقاتي (أبو رشيد) أحد المشاركين في القتال ضد الجيش اللبناني في معارك الضنّية، لكنه استُدرج إلى خارج المخيم وسُلّم إلى الجيش في سنة 2004. وعلى هذا المنوال، بدأت تظهر علنًا المجموعات المتطرّفة التي حوّلت حياة اللاجئين الفلسطينيين جحيمًا، وصار الجميع يحفظون أسماء تلك المجموعات، مثل "جند الشام" وهؤلاء أُطلق عليهم، للتفكّه، لقب "جنود الست" على وزن "زنود الستّ" (الحلويات المشهورة)، وفي ذلك تورية تشير إلى المعونة المالية المفترضة التي كانت تقدّمها بهية الحريري إلى هؤلاء الهاربين من الشمال اللبناني، والذين شكّلوا مجموعات سُنية ربما يُستفاد منهم في أي مواجهةٍ عتيدة مع حزب الله.
وفي مخيم عين الحلوة، وكذلك في مخيم الميّة وميّة المجاور، راحت الناس تلوك في كل يوم أسماء منظّمات على غرار "أنصار الله" الذي كان يقودهم جمال سليمان الذي قُتل إبنه حسن في العراق في سنة 2003، و"كتائب عبد الله عزّام" بقيادة السعودي ماجد الماجد الذي مات في المشفى العسكري في بيروت، بعد أن اعتقلته المخابرات العسكرية اللبنانية في سنة 2013. ومن أَعلام تلك الجماعات التي لا يصل عديدُ بعضها إلى أكثر من 30 مقاتلًا محمد صالح الزواوي (أبو سليم طه، فلسطيني سوري) وشحادة توفيق جوهر (أبو عمر) الذي قُتل في اشتباك بين جند الشام وحركة فتح، وبلال محمد عرقوب ومحمد الدوخي (خردق) وهيثم الشعبي وأسامة الشهابي وعماد ياسين الذي استُدرج وجرى تسليمُه إلى الجيش اللبناني بعدما أمضى 25 عامًا في أحد أحياء المخيم الذي لم يخرج منه إطلاقاً طوال هذه المدّة إلا إلى السجن. ومن غير الفلسطينيين الذين احتموا بالمخيم في فترات مختلفة، نعثر على سليمان درويش (أبو غادية الشامي – سوري) وصالح أبو السعيد (لبناني) وشهاب القدور (أبو هريرة) الذي فرّ من طرابلس إلى عين الحلوة في سنة 1995 وانضم إلى "عصبة الأنصار". ولما أعلن شاكر العبسي منظمّة "فتح الإسلام" في مخيم نهر البارد في سنة 2006 غادر أبو هريرة عين الحلوة مع نعيم الغالي ووليد البستاني إلى طرابلس للالتحاق بـِ "فتح الاسلام"، وقُتل في محلة أبو سمرا في عام 2007. ومن مشاهير الإرهابيين غاندي السحمراني (أبو رامز الطرابلسي)، وهو من مجموعة الضنية، وكان يحتمي بعصبة الأنصار، ثم انضم إلى "جند الشام" قبل أن يعُثر عليه مقتولاً في سوق الخضار في عين الحلوة في سنة 2010.
"العين المرّة" والملاذ الأخير
خضع مخيم عين الحلوة للنار مرّات عدة منذ الاجتياح الاسرائيلي لبنان في سنة 1982. وكان استقبل جموعًا من الفلسطينيين اللاجئين إليه من مخيم النبطية الذي دمّره الطيران الاسرائيلي في 1974، ثم استوعب أعدادًا من مخيمي البداوي ونهر البارد في أثناء قتال المنشقّين على حركة فتح في 1983. ووفدت إليه أعداد غير محدّدة من مخيمات بيروت إبّان الحرب على المخيمات في 1985.
توارى مطلوبون كثيرون بجرائم مختلفة في أحياء معينة من عين الحلوة، حيث وجدوا الرعاية والحماية والتمويل من "أمراء" الجماعات القاعدية
وبهذه الهجرات المتتالية، صار أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان، وتوزّع ساكنوه على أحياء ذات طابع عائلي أو عشائري، مثل الصفصاف والراس الأحمر والطوارئ والبركسات والطيرة، وبات هذا الحي مخصوصا بعرب الزبيد وذاك لعرب أم عبيد. وعلى هذا النحو من تراجع "الفكرة الوطنية" التي كانت حركة فتح قد رسّختها في صفوف اللاجئين، بات الحي هو الأمة مصغّرة، وصارت الحارة هي فلسطين. وقد غذّت الجماعات الدينية الانتماءات العشائرية والهويات ما قبل الوطنية، الأمر الذي أدّى، بالتدريج، إلى انغمار المخيم بالرثاثة الاجتماعية والتذرّر الوطني والسياسي. وأفسحت هذه الحال المتفسّخة في المجال أمام هذه الجماعات لتحويل المخيم إلى ملجأ لكثيرين من أوباش التطرّف، وإلى ملاذ لكل مَن ارتكب جرائم ذات طابع إرهابي. وما كاد الفلسطينيون يطوون صفحة "فتح الاسلام" في سنة 2007، حتى وجدوا أن فلول هذه المنظمّة القاعدية، بدأت تتجمّع سرًا في حي الطوارئ، وفي غيره من الأحياء التي استولت عليها تلك الضباع المقروحة، أمثال هيثم الشعبي وبلال بدر وعماد ياسين وأسامة الشهابي وأنصار أحمد الأسير وممثولاتهم من كائنات الكهوف، من طراز عصبة الأنصار وجند الشام والشباب المسلم وكتائب عبد الله عزّام. وتمكّن هؤلاء لأسبابٍ شتّى منها تراخي سلطة حركة فتح في المخيّمات، علاوة على الأموال المتدفّقة على تلك الجماعات الإرهابية من الرّقة والعراق في الماضي القريب، ومن إدلب وتركيا حاليًا، من التحكّم بالحياة اليومية للفلسطينيين في مخيّم عين الحلوة الذي باتت الحياة فيه مرّة ومريرة خلافًا لاسمه. وهذه الجماعات لم تطلق، كما هو معروف، رصاصة واحدة على إسرائيل، فيما كان رصاصها يزخّ كالمطر على الجيش اللبناني تارّة، أو على حركة فتح، أو على محلات بيع الخمور وأشرطة الأغاني وصالونات التزيين النسائية تارة أخرى.
وعلى هذه المنوال استطابت تلك المجموعات أن تفتعل قتالاً ضد حركة فتح بين الفينة والأخرى لإثبات وجودها، أو لأسبابٍ معتادةٍ من "الزعرنة" اليومية، أو لدوافع ثأرية أحيانًا، فيما كانت حركة فتح مغلولة اليديْن، فهي تستطيع القضاء على تلك الزمر، لكن الثمن سيكون دماراً لا يمكن احتماله في المخيم. وللأسف، فإن بعض المنظمات الفلسطينية تسلك مسلكًا انتهازيًا من الحوادث الدامية، وتقف متفرّجة بخبثٍ على مجريات القتال وستكون مسرورةً جدًا إذا ضعفت حركة فتح في عين الحلوة، لأن من شأن ذلك أن يشكّل مدخلاً لتقوية موقعها في المخيمات. وعلى غرار هذه الانتهازية، كانت بعض الأوساط اللبنانية اليمينية تطلق الزغاريد كلما غرق الفلسطينيون في تقاتلهم. والواضح تماماً أن الحل العسكري غير ممكن في عين الحلوة، ولا يبقى على أصحاب المسؤولية إلا اللجوء إلى الحل الأمني والعمليات الخاصة للتخلّص من هذه المجموعات الإرهابية المتطرّفة. وتطرح المعارك التي استجدّت أخيرا في عين الحلوة مجدّدًا على العقل السياسي الفلسطيني، في حال وجوده حقاً، السؤال عن جدوى السلاح بين أيدي الفلسطينيين؛ هذا السلاح الذي لا يُستعمل في مقاتلة إسرائيل، ولا يحمي الفلسطينيين بل يقتلهم.
لقد وصف الكاتب البريطاني باتريك سيل جماعة صبري البنا (أبو نضال) بأنها عبارة عن "بندقية للإيجار". وكان ذلك الوصف صحيحًا تمامًا، وهو ينطبق على الجماعات التي تعيث في عين الحلوة إرهابًا وفسادًا وارتزاقًا وتدميرًا وانحطاطًا.