عين غالب هلسا ويحيى الطاهر عبدالله
مع روائح بداية كل أبريل من كل سنة، أجدني مشدودا إلى سيرة الكاتب يحيى الطاهر عبدالله، والذي مرّت على رحيله (في سنة1981)، أربعون سنة بالتمام والكمال، من دون أن يتوقف سهمه عن الإصابة، ومن دون أن يخفت شهابه في سماء السرد المصري لجيل الستينات وما بعده من أجيال. وهذه المرّة أراه من خلال عين الكاتب الراحل غالب هلسا، الصافية، بلا بلاغة قديمة، أو تهويل، أو تقليل، بل تمثّل عينه شفافية الشوف، بعيدا عن الدخول في متاهات النيات، أو اقتراف الذنوب والأعذار، أو إسناد البطولات والنزق ليحيى.
كانت عين غالب في الزيارة لبيت صعيدي بسيط، في صحبة يحيى في ليلةٍ ما، حليمة جدا، وناعسة في الرصد ليحيى، وهو يصول ويجول، وللمكان أيضا. العين الحليمة متجاوزة للمعايب بالقطع، ولكنها في ذكاء قلب غالب وجسارته في الشوف بلا خدش أو فضول، كنمرٍ حليمٍ في زاويةٍ ما، زاويةٍ من شقاوات يحيى، وزاويةٍ مربكة من البيت وصاحبه الطيب جدا، والمضياف بما تملكه اليد، حتى وإنْ كان بسيطا.
كان غالب يرى يحيى بعين فاحصة لدواخله وفضوله الفني ومشاكساته التي لا تخلو من حدّة تكون جارحةً أحيانا، ويتلقاها صاحب البيت بأدبٍ وصبر. كانت عين غالب حليمة من دون أن تكون كذلك تماما كعادة غالب. كان المكان غريبا على غالب كلية، وقريبا جدا من يحيى وعوالمه الهامشية التي يرقص قلبه وسط أساها من دون جرح أو أذى. وكانت عين غالب في تمام صحوها، صحبة حانية للمكان، صحبة مذاق آخر لفقراء الصعيد حول السيدة زينب في بيت متواضع يفتح عوالمه ليحيى، معايشة، وصحبة، وضيافة، ويشمل معه غالب، وغالب بالعين يراقب.
مشهدٌ لم نجده قط في كتابات يحيى حقي "ابن السيدة زينب سكنا وإبداعا"، والعفيف جدا في الشوف وستر الكلمات ومرادها. كانت عين غالب هلسا تتلمّس طريقها في فهم يحيى، وتعامله مع صعايدة فقراء شبه مقطوعين أو مهمّشين عن العالم في أعمال بسيطة، في بيت فقير بالسيدة زينب، وصاحب البيت وكأنه "صوفي"، والنساء في البيت وكأنهن يسيرات من دون أن يكن كذلك، ومن دون أن يجرح يحيى زجاج سترهن، على الرغم من أنهن مكشوفات. ويعاملن يحيى كأخ له مكانة عالية بالمدينة، أو كضيفٍ ليس في حجرهن ما يستحقه من كرمٍ يكفي مقامه. ورجل البيت هناك يبتسم ليحيى وضيفه مرحبا، وكأنه "صوفي" ينتظر ولايةً متعثرةً، طال زمانها حتى كبر ونسي واندمج بالعالم، وكأنه هو ذلك الشيخ الذي ترك جامع الزيتونة إلى غير رجعة، واستقرّ في بيتٍ مشابهٍ مع فارق الوظيفة بالطبع، لذلك البيت في رواية "عرس بغل"، للطاهر وطّار.
كان يحيى وكأنه يمتلك "شفرة البيت"، من دون أن يبوح بها لغالب هلسا، وتلك كانت متعة يحيى في زياراته البسطاء في صحبة كاتبٍ أو صديق، "فعلها مع عبد الحكيم قاسم"، في بيتٍ مشابهٍ في أثناء مباراة كرة قدم للأهلي يحب أهله، اللاعب السوداني قرن شطّة، ويحيى وسطهم يصفق للهدف، وعبد الحكيم في تمام فضوله واندهاشه، حتى لامه يحيى على فضوله الكثير.
كان غالب يحاول جاهدا أن يفكّ شفرة البيت بلا أسئلة أو فضول، فقط بالرصد، كان يحيى "مكيرا جدا"، يغيظ عين غالب بالنزق، من دون أن يفتح باب المعرفة أو القرب لغالب، وغالب "أريب"، ويعرف ذلك في عوالم مشابهة، حتى وإن لم يعشها. كان يحيى مع غالب في مباراة غامضة. يحيى يلعب المباراة بكامل نزقه في البيت بلا خدش، وغالب يلعب المباراة بعينٍ ناعسة، تحكي ظلمة المكان بلا فضيحة، بل في غاية الشفافية والستر.
كان يحيى يريد أن يتفوّق على غالب بغرائبية المشهد الذي لن تطاوله الكتابة أبدا، مهما حملت من بلاغة، وغالب هلسا يركن عينه هناك، ناعسة في الظلمة، حتى انتهت المباراة، لأول مرة، بلا عراكٍ مع يحيى، ورحمة الله على الاثنين، بعد ما أضافا للكتابة كل هذا الشجن في تلك الزيارة.