غرنيكا عاطف أبو سيف
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
إذا كانت جدارية غرنيكا للفنان الإسباني بابلو بيكاسو وثيقة فنية خالدة تذكّر بما حدث لبلدة غرنيكا في أثناء الحرب الإسبانية من قصف استمر ثلاثة أيام، فإن كتاب "وقت مستقطع للنجاة... يوميّات الحرب في غزّة" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2024) للروائي ووزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، وثيقة حيّةٌ عالية القيمة، سواء في مستواها التوثيقي المتتبع أدقّ تفاصيل المأساة أو في بلاعتها التصويرية ورشاقة وصفها الظلال والأنفاس والخوالج وذعر الأطفال والنساء وتفاني الرجال في إسعاف جرحاهم، وقبل ذلك كله، وثيقة عظيمة في تصوير، بالكلمات، حربٍ شديدة البشاعة: "سمعنا بحرب المدن وسمعنا بحرب الصواريخ، ولكننا لم نسمع بحرب المستشفيات. لم يسبق لدولةٍ في التاريخ أن أطلقت حربا على مستشفيات عدوها" (ص 316).
يقع الكتاب في 631 صفحة، ويضم تفاصيل 85 يوماً من مشاعر الألم تحت سماء الحجيم، إذ كان "كل شيء يرقص ويهتز". اقتنيته من معرض مسقط الدولي للكتاب قبل أيام، وظلّ معي أياماً، ورافقني إلى أكثر من مقهى ومصطبة بحْرية.
كانت المصادفة، على مأساويتها، سخية بأن يترك لنا عاطف أبو سيف هذا السفر البليغ، وقد ذكر في المقدمة أنّ صديقه الكاتب معن البياري حثّه على تسجيل يومياته أولاً بأول، حين علم أنه في غزّة، ثم نشر يومياتٍ عديدةً منها في صحيفة العربي الجديد.
يجد القارئ في "وقت مستقطع للنجاة" ما لا يسرّه، وأيضاً ما لا يمكن التصالح معه، أصدقاء للكاتب من مثقفين وأهل ومواطنين يظهرون في بداية الأيام الأولى للمذكّرات بكامل صحتهم وذهولهم، ما يلبثون أن يتساقطوا موتى واحداً واحداً مع التقدّم في القراءة... يا إلهي. سيصرُخ كل من يقرأ هذا الكتاب في داخله، وربما ستتساقط دموعُه حرّى. لا يوجد أبلغ من الكلمة. لقد بثّ الكاتب مشاعره فوق السطور وبينها، ما يصعُب أن تصوّره كاميرات نشرات الأخبار، ولا حتى الأفلام الدرامية. ستظلّ الصورة، مهما بلغت من تطوّر، عاجزة عن ملامسة مسالك الروح واللهاث والمشاعر التي أتقن الكاتب تتبعها، لأن عينيه كانتا الكاميرا التي تلتقط وتصوّر، ولأن جسده كان هناك، وقلبه هو من كان يخفق، حين كان يتنقل مع ابنه ياسر عرفات من مكان إلى آخر، وقد أخطأتهما شظية الموت مصادفة: "المصابون تجرى عمليات لهم من دون مخدّر ويتم بتر أعضائهم من دون مخدّر، ويتم فتح بطونهم من دون مخدّر" (ص 159).
شاهدٌ رأى تفاصيل المجزرة ووثّقها بتفاصيلها للتاريخ: "بدأ بعض المواطنين يكتبون أسماءهم على أعضائهم، حتى يتم التعرف عليهم في حال تمزّق أجسادهم. يريد الجسدُ أن يجد اسماً، والاسم يريد الجسد الذي يدلّ عليه" (ص 163).
رغم أن هاجس الكاتب كان نقل الأخبار والتفاصيل حارّة من أجل نشر ما يكتبه عنها بأمانة باللغتين العربية والإنكليزية. ويمكن أيضا متابعة الصعوبات الكبيرة التي كان يعانيها وتقطّعات الكهرباء وصعوبة الإرسال، فكانت في ذلك كله مقاومة أخرى للموت، أو الردّ بالكتابة، كما كرّر مرارا إدوارد سعيد في كتبه الملهمة. حيث لا سلاح للأعزل إلا صراخه وكلماته. رغم ذلك، جاءت هذه الكلمات بليغة، فيها مسحة من طراوة التعبير وعذوبته، بيد أن الخيال، مهما شحذ قواه، لا يمكنه أن يطابق الواقع الذي كان يراه الكاتب حيّا أمامه في غزّة، وكأن الخيال هنا يبرُز فقط كمتنفس للكلمات من أن ينقطع نفسها، وهي تتتابع بتلك الحرارة القاتلة "في الطريق من المستشفى الأوروبي إلى رفح كان الناس يصفطون أمام محطّة تعبئة الغاز بالآلاف. كل شخص يضع جرّة الغاز ويقف بجوارها. يبدو صفّ جرار الغاز مشهداً مثيراً في فيلم سينمائي منسي لا يشاهده أحد. بدت الجِرار حزينة. ربما يدخل طابور الجِرار الطويل هذا موسوعة غينيس لو جرى الالتفات إليه" (ص 400).
وهكذا أراد عاطف أبو سيف أن يلتفت إليهم، وأن يقاوم النسيان الذي أراده العالم، ليصوّر بالكلمات ما يجب أن يعرفه ويشاهده كل أحد، حيث صراخ البشر يعلو على أصوات الطبيعة من ريح ومطر، "الحياة في غزة معلقة ومؤجّلة، لا أحد يعيشها بشكل كامل، ولا أحد يعيشُها بشكل متواصل، بل قطعة قطعة، وحين تعيش جزءاً منها، فهذا لا يعني أنك ستعيش الجزء الثاني، بل إن عليك الانتظار حتى تتبيّن نصيبك الآخر" (ص 432).
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية