غزّة تخلط الأوراق
انهيار السياسة الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، وسقوط نهج تصفيتها، هي النتيجه الأولى لهجوم 7 أكتوبر على مستوطنات غلاف غزّة. والمعنى المباشر لذلك فشل المسار الذي جرى العمل به منذ اغتيال رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحق رابين عام 1995، لأنه حاول أن يخطو خطوة باتجاه السلام. ومنذ جولة المفاوضات بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل الأسبق إيهود باراك، في كامب ديفيد، في يوليو/ تموز 2000، لم تجر مفاوضات سلام فعلية بين إسرائيل والفلسطينيين. وساد الاعتقاد، بعد ذلك، أن في وسع إسرائيل تهميش المسألة الفلسطينية، من دون أن تتحمّل أي كلفة، رغم أن الانتفاضة الثانية التي حصلت في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه كانت أكثر عنفا من الأولى، التي سبقتها عام 1987. والسمة البارزة للسياسة الإسرائيلية خلال العقدين الماضيين هي الاتجاه بقوّة نحو ضمّ الأراضي الفلسطينية والاستيطان، وهذا هو جوهر اتفاق حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، التي تشكلت قبل نحو عام، بشراكة حزب الليكود بقيادة نتنياهو، مع حزبي القوة اليهودية والصهيونية الدينية. وهذه ليست فقط الحكومة الأكثر يمينية وتطرّفا في تاريخ إسرائيل، بل هي انعكاس فعلي للمشهد السياسي، حيث واصل معظم الناخبين اليهود التعبير عن جنوحهم نحو اليمين في الاستطلاعات. وقبل خمسة أيام من هجمات 7 أكتوبر، أجرى مركز "إيه كورد" لبحوث علم النفس الاجتماعي التابع للجامعة العبرية استطلاعاً، وجد أن ثلثي اليهود الإسرائيليين أعلنوا تأييدهم اليمين. إما "يمين متشدّد" أو "يمين معتدل"، في مقابل 10% مؤيدين لما يعرف بـ"اليسار".
من المبكّر الجزم بالآثار السياسية لحرب إسرائيل على غزّة، والإخفاق الكبير على المستويين الأمني والعسكري، لكن أغلبية التقديرات ترى أنها سوف تُحدث تغييرا مهما، وهذا ما جرى العمل به في عدد من حروب إسرائيل السابقة، منذ حرب عام 1973، حيث استقالت رئيسة الوزراء غولدا مائير من منصبها في نهاية الحرب، وتخلت عن مقعدها في الكنيست، ولم تشغل المنصب مرة أخرى. ومن غير المستبعد أن ينتهي نتنياهو إلى المصير نفسه، غير أن ذلك لن يترجم نفسه تلقائيا لجهة الحل السياسي للقضية الفلسطينية، لأن المشهد السياسي الإسرائيلي لا يقدّم شخصية سياسية ذات مواصفات مختلفة جذريا عن رئيس الوزراء الحالي. وحتى زعيم حزب الوحدة الوطنية الذي ينتمي إلى يمين الوسط بيني غانتس لا يوجد في خطابه ما يشير إلى أنه يختلف بصورة كبيرة، أو يمكن أن يبتعد عن النهج الحالي الذي يتّبعه اليمين تجاه الحل.
ومهما يكن، لن يرحل الفلسطينيون عن بلادهم، وسيواجهون المخطّطات. وتشكّل المقاومة في قطاع غزّة والضفة الغربية دليلا على مدى التصميم. ورغم الخسائر الكبيرة في الأرواح والمادّيات، فإن الشعب الفلسطيني لن يتراجع عنها كخيار، من أجل إفشال مشاريع الاستيطان والتهويد والتهجير، وانتزاع حقّه في الاستقلال. وما يحصل في غزّة يضع العالم أمام حقيقة مهمة، وهي أن الحق الفلسطيني وراءه مطالب، لن يتنازل عنه، وأن لاسترجاع هذا الحقّ ثمنا كبيرا من الطرفين. ومن الطرف الآخر، لن تدفع إسرائيل وحدها الكلفة الباهظة، بل سيتحمّل ذلك كل الذين يدعمونها في الولايات المتحدة وأوروبا. وهذا هو مغزى نصيحة الرئيس الأميركي جو بايدن، "على إسرائيل أن تكون حذرة لأن الرأي العام العالمي بأسره يمكن أن يتغيّر بين عشية وضحاها". وجاء ذلك بعد ثاني تصويت في الجمعية العامة العامة للأمم المتحدة، ارتفع فيه عدد الدول المؤيدة لقرار وقف إطلاق النار من 123 إلى 153، ولم تقف إلى جانب إسرائيل سوى ست دول.