غزّة في قلب الانتخابات الفرنسية
بالرغم من التعتيم الإعلامي المطبق الذي تعرفه فرنسا بشأن ما يدور من تقتيل وتهجير وإبادة في حق الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزّة، فرضت القضية الفلسطينية نفسها داخل النقاش السياسي الفرنسي، لا يفتأ الساسة الفرنسيون يستعملون القضية سلبا أو إيجابا، كلٌّ حسب هواه ومرماه، ومراده ومبتغاه؛ فبينما أدرجت الجبهة الشعبية الجديدة (تحالف يساري عريض يضم بالأساس أربعة أحزاب: الاشتراكي وفرنسا الأبية ثم الخضر والشيوعي) الاعتراف بدولة فلسطين في برنامجها الانتخابي، يتهم زعيم التجمّع الوطني (العنصري)، جوردان بارديلا، الحكومة الفرنسية بتمويل الإرهاب في غزّة لإرسالها بعض المساعدات من قبل.
يأتي هذا في وقت أصبح فيه اليمين المتطرف الفرنسي على مرمى حجر من الوصول إلى قيادة الحكومة الفرنسية المقبلة عقب الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها التي أعلن عنها الرئيس الفرنسي ماكرون الذي يحاول جاهدا كيل الاتهامات لأكبر معارضيه عن اليمين واليسار، مستعملا كل الأساليب والطرق لإنقاذ موقف حزبه، محذّرا الفرنسيين من خطر حرب أهلية إذا فاز أحد الفريقين، فالنجاة بيده والهلاك مع الآخرين.
ولكن إذا كانت الاتهامات بالتطرّف واضحة وظاهرة للعيان، ذات معنى ومغزى في حق حزب التجمّع الوطني بحكم برنامجه السياسي وعنصريّته وتاريخه العريق في معاداة الأجانب والأقليات الدينية والعرقية بشتى أطيافها، فلا غرو أن بعض الاتهامات الموجهة لتكتل اليسار ومنها معاداة السامية وتشجيع الطائفية ومحاربة العلمانية لا يمكن تصنيفها لجسامتها إلا في باب الخداع أو التضليل السياسي، بل يمكن نقلها من خانة الدهاء والمكر والخديعة إلى خانة الخبث واللؤم والمكيدة، لأنها لا تفيد ولا تجدي، ولا تنفع إلا اليمين المتطرف، وتدفع المرء إلى أن يتساءل هل يفضل ماكرون التعايش مع اليمين المتطرف على حساب اليسار؟
هذا ممكن، إذ لا بد من التذكير بأن "معاداة السامية" لا تعتبر حرية رأي، بل جريمة يعاقب عليها القانون الفرنسي، شأن العنصرية وهذا جيد، ما لم يتم الخلط بينها وبين الصهيونية "التي كان قرار الأمم المتحدة رقم 3379 يعتبرها من أشكال العنصرية والتمييز العنصري". وعليه، كان بإمكان الرئيس الفرنسي تفعيل القضاء لو كانت اتهاماته صحيحة، ومن هنا ندرك أن اتهاماته تحالف اليسار بصفة عامة وحزب فرنسا الأبية بصفة خاصة كيديّة لا غير، نظراً إلى الموقف المتزن لهذا الحزب من العدوان الهمجي الإسرائيلي على غزّة ومطالبته بوقف إطلاق النار منذ البداية، خلافا لما درجت عليه الأحزاب الفرنسية الأخرى التي ما زال بعضها يؤيد ويبرّر ما يقوم به نتنياهو من إجرام وإبادة في حقّ الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزّة.
بعض الاتهامات الموجهة إلى تكتل اليسار في فرنسا، ومنها معاداة السامية وتشجيع الطائفية ومحاربة العلمانية، لا يمكن تصنيفها لجسامتها إلا في باب الخداع أو التضليل السياسي
في ابتغاء إقصاء اليسار والبقاء وحيدا أمام اليمين المتطرّف كما حصل سالفا، أطلق ماكرون هذا الاتهام الخطير والأرعن الذي وجد فيه ضالّته كل من يعادي القضية الفلسطينية العادلة وكل أولئك الذين يعتبرون أن الدفاع عنها هو بالضرورة عداء ليس لليمين المتطرّف الذي يحكم إسرائيل فحسب، وليس للصهيونية وأساليبها الاستعمارية البغيضة، بل هو عداوة لإسرائيل وللدين اليهودي ولليهود، ومن ثَمّ هو كراهية للسامية، متناسين أن فرنسيين يهوداً عديدين ضد العدوان الهمجي وضد هذه الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي.
أما بيت القصيد في هذه الاتهامات القديمة الجديدة فهو حزب فرنسا الأبية وزعيمه جان لوك ميلانشون المرشّح الرئاسي السابق الذي اتخذ مواقف أثارت عليه الغضب والسخط، فقد تجرّأ سابقا واتهم المؤسّسات اليهودية، خاصة المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية المعروف اختصارا بـ CRIF بالطائفية والتدخل في شؤون الدولة الفرنسية؛ فضلا عن موقفه تجاه الفلسطينيين وموقفه الداعم لهم لإقامة دولتهم على حدود 1967. بيد أن جرمه الأعظم الذي لا يغتفر اتخاذه موقفين: مساندته مقاطعة إسرائيل اقتصاديا وعسكريا وهذا خط أحمر، ورفضه إدانة حركة حماس واعتبارها منظمة إرهابية، بانيا موقفه هذا على موقف الأمم المتحدة، شاجباً، في الوقت نفسه، ما وقع يوم 7 أكتوبر معتبرا إياه جريمة حرب وليس إرهابا، ثم مندّدا تنديدا قويا بالإبادة العرقية التي يتعرّض لها أبناء غزّة مطالبا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.
لن ندخل في تفاصيل أكثر، فشهاداتٌ عديدة تفند مزاعم الرئيس الفرنسي وحاشيته من جهة، ثم اتهامات اللوبي الصهيوني ومن يدور في فلكه من جهة ثانية، ويكفي أن نذكر شهادة السيناتور الفرنسي يان بروسا الذي صرّح على قناة CNews اليمينية المتشددة قائلا: "إنني أحمل دائما الاتهامات بمعاداة السامية محمل الجد، فثلاثة من أجدادي قتلوا في الهولوكوست، واثنان نجوا من معسكر أوشفيتس النازي، كل هذا لأنهم كانوا يهودا؛ وعليه لو كان لي أدنى شك في وجود أي شكل من أشكال معاداة السامية في تحالف اليسار لما ساندته".
فرنسيون يهود عديدون ضد العدوان الهمجي وضد الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزّة
في المقابل، نجد مقالا مدافعا ومنافحا عن ماكرون، نشر في 20 يونيو/ حزيران الجاري، على موقع المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية CRIF من طرف رئيسه السابق ريتشارد براسكييه يقول فيه:" بالنسبة لليهود الفرنسيين، يجب عدم رمي الطفل الرضيع مع ماء الحمام. على الرغم من خيبات الأمل، فإن التزام الرئيس ماكرون بمحاربة معاداة السامية وحتى تأييده لإسرائيل أمران حقيقيان" وهنا يمكن أن نقول إنه إذا ظهر السبب بطل العجب.
يجري هذا كله في عز الحملة الانتخابية، لأن كل طرف يريد استمالة جزء كبير من الناخبين المتذبذبين، فاليسار الفرنسي وحزب فرنسا الأبية يعلم أنه لولا تصويت أبناء الضواحي من أبناء الجالية العربية والمسلمة لما حصل على ما حصل عليه من الأصوات والمقاعد داخل مجلس النواب الفرنسي ولما حصل ميلنشون على المركز الثالث في الرئاسيات، وقد وصلت نسبة تأييد حزب فرنسا الأبية في بعض المناطق الآهلة بالفرنسيين ذوي الأصول المغاربية إلى أكثر من الثلثين في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، وأغلبهم يصوت حسب الموقف من القضايا التي تهمهم وفي مقدمتها غزّة.
هذا ما يخشاه كثيرون من الساسة الفرنسيين، لأن الصوت العربي (بغض النظر عن الذين يصوّتون لليمين المتطرّف لاتجاهاتهم الدينية) إذا فُعّل كتلةً واحدة، وانضم إليه صوت الجالية المسلمة التي تقدر بحوالي 10% من سكان فرنسا فإنه سيكون سلاحا فتاكا في الانتخابات، يرفع من يشاء ويُطيح بمن يشاء، ومن هنا نفهم أن محاربة ما تسمّى الطائفية عند بعضهم، وغضّ البصر عنها عند آخرين، تقتضيها الفائدة والمنفعة، والجدوى والمصلحة. الغاية تبرّر الوسيلة، وأينما كانت مصلحة الساسة فثمّ التبرير والتسويغ.