غزّة مأساة مستمرّة
يشكّل الصراع جوهر عقيدة النظام الإسرائيلي كياناً استيطانياً هشّاً وطارئاً، يفتقر إلى إمكانية التعايش مع محيطه، ومن ثمّ ترجمته سلوكَ دولةٍ لا سلوكَ عصابةٍ إرهابية، ليتمظهر الصراع في حالاته ومستوياته كلّها في سياساته ضدّ الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة، سواء في الضفّة الغربية أو في قطاع غزّة، إلّا أنّه استطاع تسويقَ وهمٍ سياسيٍّ بأنّ الصراع والتصعيد العسكري وضعان طارئان فرضهما هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر (2023)، وأنّ تعطيل إمكانية تهديدها أمن إسرائيل سيخلق وضعاً مستقرّاً في قطاع غزّة، إلّا أنّ مسارات حربه في القطاع، وبعد عام، تؤكّد أنّ طريق التهدئة (لا السلام) لا يمثّل خياراً بالنسبة لإسرائيل، ناهيك عن خفض تصعيدها العسكري في الإقليم، وأنّها تعمل بوسائلها كلّها لتثبيت وضع دائم يتمثّل في تجذير حالة الحرب وقتل الأبرياء في غزّة، في مقابل استمرار منع التدخّلات الإنسانية لإنقاذ المدنيين المُحاصَرين.
على مستوى الإقليم، انتجت حرب الكيان الإسرائيلي في قطاع غزّة (على مدى عام) مساراً متصاعداً من التوتّرات، أفضى إلى توسيع جغرافيا العنف الذي تقوده إسرائيل ونطاقاته، إذ مثّلت الطرف الرئيس في إدارة معادلة الردع متعدّد الجبهات ضدّ معسكر قوى المقاومة المناهضة لها، بدءاً بحربها في قطاع غزّة ضدّ حركة حماس، حتّى خوضها الحرب ضدّ حزب الله في لبنان أخيراً، ما ترتب عليه بقاء الخيار العسكري متاحاً بالنسبة إلى إسرائيل، وبالطبع غير مشروط بمدىً زمنيٍّ محددٍّ، وإنّما بقائمةٍ متغيّرة من الأهداف، إلى جانب توظيف ديناميكية الصراع المتعدّد الجبهات لصالحها، باستمرار رفع مستويات التهديدات على أمنها، في مقابل إفشال مساعي وقفَ إطلاق النار، سواء في قطاع غزّة أو في لبنان، وربطها بالاشتراطات الإسرائيلية. ومع ربط مسارات حرب الكيان الإسرائيلي في غزّة بعملياته العسكرية في لبنان، يعوّل الاحتلال على استمرار الحرب في غزّة لّأنها الجبهة الأكثر أهمّيةً بالنسبة إليه، لإضفاء مشروعية دائمة على تصعيده العسكري في الإقليم ضدّ معسكر المقاومة الإسلامية، وبالطبع ضدّ إيران، وأيضاً للضغط على حلفائه الغربيين للحصول على دعم عسكري وسياسي، بتكريس خطابه الديماغوجي بأنّ هجوم "حماس" على إسرائيل لا يقل فظاعةً عن الهولوكوست، ومع أنّ الكيان الإسرائيلي استطاع مدعوماً بآلته العسكرية استهداف حركة حماس، بما في ذلك اغتيالات قياداتها الميدانية، آخرها قتل يحيى السنوار رئيس حركة حماس، ومهندس عملية طوفان الأقصى، فإنّ مقتله، وإن شكّل ضربةً عسكريةً وسياسيةً لحركة حماس، إلّا أنّها تتمتّع بفعالية إسناد مجالها الحيوي قوةً في الأرض، وبمشروعيتها الأخلاقية مقاومةً مسلّحةً ضدّ الاحتلال، ممّا يجعل حرب الكيان الإسرائيلي على "حماس" عبئاً عليه أيضاً. إذ إنّه، وإن مضى في أجندته العسكرية باستهداف مدن قطاع غزّة، وتنفيذ عمليات عسكرية في المخيّمات بهدف تعطيل قدرة "حماس" في تجميع صفوفها، فإنّ هذا الهدف الفضفاض، الذي يبدو أنّه قد يتضمّن قائمةً طويلةً وغير محدّدة من الأهداف، وغامضةً أيضاً بغموض ما يعنيه مصطلح تفكيك حركة مقاومة وطنية ظلّت ناشطةً على مدى ثلاثة عقود، تتحرّك في أرضها، وتشكّل ضمن القوى الأخرى خريطة القوى السياسية المحلّية، إلى جانب بقاء أسباب المقاومة ببقاء الاحتلال الإسرائيلي نفسه، وبالتالي من الصعب تحقيق هذا الهدف عملياً، ناهيك عن تنفيذه في مدى زمني محدّد، إضافة إلى عدم ضمان إسرائيل قدرتها الفعلية في القضاء على "حماس" بشكل نهائي. بالتالي، وفي ضوء استراتيجية الكيان الإسرائيلي وبنك أهدافه العسكرية المفتوحة في قطاع غّزة يعني استمرار حربه إلى وقت طويل، ومن ثمّ تنامي حدّة التوتّرات في منطقة الشرق الأوسط، واستمرار التصعيد في جبهات المقاومة المساندة لغزّة، وأيضاً تصعيدها العسكري ضدّ ايران ومن ثمّ فإنّ إسرائيل، وإن راهنت على قوة الردع، فإنّ ذلك لا يعني بأيّ حال ضمان أمنها.
الحرب من أجل القضاء على حركة حماس تعني وفق النهج الإسرائيلي الاستمرار في إبادة الفلسطينيين في قطاع غزّة
في حالة إسرائيل، وبمعزل عن الظرف الإقليمي الحالي وتطوّراته، بما في ذلك صراعها مع إيران وحروبها في الجبهات المساندة للمقاومة في قطاع غزّة، فإنّ تنامي التهديدات ضدّها ناشئ من وظيفتها التاريخية كياناً استعمارياً، ودولةَ احتلال، من خلالها يمكن تتبّع السياقات التاريخية والديناميكيات المتولّدة من طبيعة هذا الدور وإفرازاته، ومن ثمّ إدراك كنه العلاقة المتجاذبة بينها وبين أصحاب الأرض، التي تتضمّن نشاط فصائل المقاومة الفلسطينية ومنها حركة حماس، التي إن اختلفنا معها سياسياً أو أيديولوجياً، تبقى معبّرةً عن طبيعة الصراع مع إسرائيل، بما في ذلك تقاطع أهدافها مع حركات التحرّر الوطني ضدّ الأنظمة الاستعمارية، ومن جهة ثانية، تأصّل سياسة الكيان الإسرائيلي العنصرية حيال الفلسطينيين سواء في الأراضي المحتلّة أو في قطاع غزّة حالةً مستدامةً من الإرهاب والقمع والانتهاك والمصادرة وامتهان الإنسانية، الذي يولّد على الدوام توتّرات بين أصحاب الأرض والكيان المحتلّ، ومن ثمّ يكرّس حالةً ثابتةً من العداء، يشكّل في مستوى آخر أرضيةً محفّزةً للكيان الإسرائيلي لإسناد مظلوميته التاريخية، على الأقل أمام حلفائه الغربيين، بأنّه كيان مهدّد من محيطه، وبالتالي يحتاج إلى قوّة الردع العسكرية من أجل البقاء، وإذا كان هجوم "حماس" على إسرائيل شكّل ذروة استثمار معاني التهديد، فإنّ ذلك يتعزّز بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية باستمرار الحرب في قطاع غزّة حالةً مستدامةً لتحقيق أهدافها العسكرية، وبالطبع السياسية، من خلال القضاء على إمكانية التفاوض مع الحركة للإفراج عن الرهائن المحتجزين، وذلك بإيجاد معادلة جديدة على الأرض تجرّد "حماسّ من إمكانية فرض شروطها طرفاً في مقابل إسرائيل، ومن ثمّ تثبيت الخيار العسكري في قطاع غزّة أولويةً بالنسبة لإسرائيل، إذ يواصل الجيش الإسرائيلي عملياته العسكرية في مخيم جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون لإنشاء مناطقَ عازلةٍ في شمال غزّة. وبالتالي، فإنّ مقتل السنوار لا يشكّل متغيّراً يمكن البناء عليه بالنسبة للحكومة الإسرائيلية لإرساء مسار تفاوضي مع "حماس" سواء لوقف إطلاق النار في غزّة أو للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، مقوّضةً مزاعم حليفها الأميركي بأنّ "حماس" الطرف المعرقل لوقف إطلاق النار لا إسرائيل، التي تحتكر شروط القوّة والتفاوض أيضاً.
إن راهنت إسرائيل على قوة الردع، فذلك لا يعني ضمان أمنها، فتنامي التهديدات ضدّها ناشئ من وظيفتها التاريخية كياناً استعمارياً
الحرب من أجل القضاء على حركة حماس تعني وفق النهج الإسرائيلي الاستمرار في إبادة الفلسطينيين في قطاع غزّة، إذ تستمرّ المأساة الإنسانية في دورة جديدة من العنف والإجرام، من قتل المدنيين إلى تحويل قطاع غزّة جغرافيا معزولةً مغلقةَ المنافذ، ومحاصرةً، تخضع للمعادلة العسكرية الإسرائيلية وأهدافها المتغيّرة التي حوّلت مدن القطاع أرضاً غير صالحة للحياة، بتدمير المساكن وباستهداف المخيّمات والمستشفيات والمدارس، وبتدمير ما تبقّى من بنية تحتية، إلى عزل مدن القطاع بعضها عن بعض، وإعاقة حركة تنقّل المواطنين، فضلاً عن استمرار عسكرة الحياة بجعل قطاع غزّة مسرحَ عملياتٍ للجيش الاسرائيلي ترتّب منه حركة نزوح دورية للسكّان في امتداد القطاع، ومن ثمّ منع أيّ إمكانية لاستقرار المواطنين وتطبيع الحدّ الأدنى من الحياة، وإذا كان حصاد عام كامل من الحرب في قطاع غزّة يحيلنا على فاتورة مستمرّة من القرابين البشرية بمقتل أكثر من 42 ألف فلسطيني، فإنّ التجويع والحصار حتّى الموت هو التجلّي الأكبر للبشاعة والإجرام الإسرائيليين، ففي حين باتت المساعدات الإنسانية الوسيلة الوحيدة للنجاة بالنسبة لفلسطينيين في قطاع غزّة، يستمرّ الكيان الإسرائيلي في إعاقة دخول المساعدات إلى مدن ومخيّمات شمال قطاع غزّة، حيث يواجه أكثر من 400 ألف فلسطيني في مخيّم جباليا المجاعةَ المحقّقة، في ظلّ حالة حصار خانق بهدف تهجيرهم، فيما يمضي الكيان الإسرائيلي في عقاب الفلسطينيين العزّل مزهواً بانتصاراته العسكرية على خصم هو ابن الأرض المستباحة، وبالطبع إفلاته كالعادة من أيّ عقاب أو حتّى مساءلة.