غيض من فيض حقائق غائبة في الحرب
مع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة واستحقاقها لقب أطول حرب خاضتها دولة الاحتلال منذ تأسيسها، بدأت تتبلور في أوساط المحللين والمراسلين الصحافيين الإسرائيليين فئة تحمل شعار: حان الوقت لكي تُقال الحقيقة للجمهور العريض. وتنطوي كلمة الحقيقة على مدلولاتٍ ومعانٍ كثيرة، ولكن في ما يرتبط بما ننوي الغوص عليه يمكن أن نُعرّف الحقيقة اصطلاحًا بأنها الاتفاق مع ما هو قائم في الواقع. وأبرز ما تتغيّاه هذه الفئة أن تقول الحقيقة بالأساس حيال ما حققته هذه الحرب وما لم تحقّقه، من جملة الأهداف التي وضعت لها منذ البداية، وكانت بمثابة المسوّغ لشنّها منذ يوم 7 أكتوبر.
يمكن القول إن هذه الفئة جزء من إجماع إسرائيلي أوسع، على أن الأمر الأبرز الآن، بعد مرور أكثر من نصف عام على الحرب، أن هناك فشلًا إسرائيليًا مطبقًا في تحقيق أهدافها المعلنة؛ فالأسرى والرهائن الإسرائيليون بأغلبيتهم لم يعودوا، ولم تُهزم حركة حماس، ولم يتم العثور على حلّ يُبعد عناصر حزب الله عن الحدود الشمالية، وعشرات الآلاف من الإسرائيليين من سكان الشمال والجنوب لا يزالون نازحين في بلدهم، غير أن ما يسم استثنائيتها، إن صحّ التعبير، عائدٌ إلى تركيزها على تفنيد الأكاذيب التي تروّجها الدعاية الإسرائيلية الرسمية، ولا سيما التي يبثها الجيش.
وبمتابعة سريعة، يتبيّن أن أكاذيب الجيش تتعلق بأمرين: الأول، عدد الذين تمكّن من قتلهم أو اعتقالهم بين صفوف المقاومين الفلسطينيين، والذي تنفيه مثلاً حقيقة أن حركة حماس تمكّنت من إعادة تنظيم نفسها بسرعة في منطقة شمال قطاع غزّة التي احتلها الجيش الإسرائيلي ودمّرها، وهي اليوم الجهة الأقوى بالنسبة إلى سكان هذه المنطقة. وفي هذا الصدد، ينبغي أن ننوّه بأنه حتى صحيفة "يسرائيل هيوم" التي هي بمثابة بوق لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عنونت أحد تقاريرها الأخيرة التي تناولت بيانات الجيش، وإن لدوافع حزبيّة سياسية، بالعبارة الآتية "يجب قول ما يلي: أرقام الجيش الإسرائيلي تخفي الحقيقة". والأمر الثاني حجم الخسائر البشريّة التي تكبّدها الجيش الإسرائيلي والتي لا تنحصر في عدد القتلى بين صفوفه، بل تشمل أيضًا عدد الجرحى وحالات الإصابات ونسبة الإعاقات الدائمة والإعاقات في مجال الصحة النفسيّة، بما في ذلك القلق، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة، وصعوبات التكيف والتواصل، وحالات الهلوسة والذهان وغيرها.
يهدف كذب الجيش أداتيًا إلى أن يزيح عن كاهله المسؤولية عن الإخفاق الذي أدّى إلى نجاح عملية طوفان الأقصى، وإلى الفشل في الوصول إلى النتائج المرجوّة في الحرب، في حين أن كشف بعضهم هذا الكذب يرمي بجلاء إلى حصر تلك المسؤولية وذلك الفشل في قيادة الجيش.
مع ذلك، يمكن العثور على أصوات قليلة تسعى إلى اكتشاف الحقيقة التي يجري إخفاؤها من المؤسّسة العسكرية أو المؤسّسة السياسية. ومن فيض الحقائق الأخرى التي قال بعض أفراد هذه الفئة إنه ينبغي إشهارها أمام الجمهور أن إعلان خروج الفرقة 98 من منطقة خانيونس يوم 7 إبريل/ نيسان الحالي جاء ليعلن ما كان معروفاً لكثيرين منذ فترة، ومؤدّاه أنه منذ ما قبل هذا الخروج بأكثر من شهر، ما عاد الجيش الإسرائيلي يخوض عملية حسم في قطاع غزّة، ولا تقويض، ولا كل الكلمات الأُخرى التي ليس لها مغزى عسكري، مثلما يؤكد أحد كبار الباحثين في معهد أبحاث الأمن القومي. وبرأي هذا الباحث نفسه، شعر الجيش باليأس من المؤسّسة السياسية مرتين: الأولى، عندما رفض نتنياهو وحكومته بلورة غلاف سياسي للحرب من دونه يصبح العمل العسكري بلا معنى حقيقي؛ والثانية، عندما رفضت المؤسّسة السياسية، لأسباب تتعلق بمصلحتها فقط، أن تأمر بالانتقال إلى مرحلةٍ أخرى من الحرب، وهي مرحلة إقامة خطوط دفاعية، والانطلاق منها للقيام بعمليات موجّهة استخباراتيًا وتستهدف ضرب إعادة تنظيم حماس.