فاز ماكرون، وخسرت مارين، وانتصر لوبان
تتنفّس أطياف من المجتمع الفرنسي الصّعداء، عقب هزيمة مارين لوبان في رئاسيات 2022. خسرت مرشّحة اليمين المتطرّف رهان الرئاسة، مثلما انهزم والدها جان ماري لوبان من قبلها، لكن قاعدة الحزب قد اتسعت وأفكاره انتصرت، وتجاوز المدّ اللّوباني لأول مرّة في عمر الحزب الستيني عتبة الـ40% من أصوات الناخبين. انتشرت أفكار هذا الحزب العنصري على نحو واسع، وجرى تطبيعها في المجتمع، ولا يمكن لهذا الإنجاز إلا أن ينذر بالأسوأ في فرنسا.
في مطلع السبعينيات، أسّس لوبان حزب الجبهة الوطنية، وافتتح خطاب العداء للمهاجرين بشعار: "مليون عاطل من العمل يعني مليون مهاجر غير مرغوب فيهم" و"فرنسا والفرنسيون أولا". لقي خطابه آذانا صاغية شجّعته على المطالبة بتهجيرهم قسرا: "علينا تنظيم عودة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية في أسرع وقت". وباسم النّقاء العرقي والسّمو الحضاري، حثّ السّلطات على الكفّ عن منح الجنسية الفرنسية لكلّ من يولد في فرنسا، لأن "الماعز قد تُولَد في الإسطبل، لكن ذلك لن يجعل منها أحصنة"، على حدّ قوله. وفي موضع آخر، تبجّح بشرائه بيتا في الريف، حتى يستمتع أبناؤه برؤية البقر بدلا من العرب.
ولمّا كان عقاب القضاء الفرنسي للتحريض على الكراهية والعنصرية ينحصر في غراماتٍ شكليةٍ لا تتجاوز آلاف اليوروهات، فقد استمر لوبان في شيطنة "الأجانب"، مستهدفا العرب والمسلمين على نحو خاص. وظلت مارين، ابنته البكر، تردّد خطاب والدها، مشبّهة صلاة المسلمين في الشارع بالاحتلال النازي. ودعت هي الأخرى لحرب شاملة ضد "الاستبداد الإسلامي"، حتى لا "تحل الشريعة محل دستورنا، ويحلّ الإسلام الراديكالي محل قوانيننا، ويدمّر عمراننا، ويحظر موسيقانا، ويمارس التطهير الديني بكل فظائعه"، كما قالت في أحد خطاباتها الترويعية في سنة 2015.
الدولة الفرنسية ماضية في خدمة اللوبينية، وسياساتها السلطوية تُمهّد الطريق للفاشية
ومع ازدياد طموحها في السلطة، أبعدت مارين والدها عن الحزب الذي أطلقت عليه اسم "التجمع الوطني" في سنة 2018. لطّفت خطاباتها، وأكثرت من ابتساماتها، ووسعت دائرة العداء لتشمل نظريا العولمة المتوحشة. غيّرت العلامة التجارية وحافظت على البضاعة، وبدل مهاجمة الإسلام والمسلمين صراحة مثلما يفعل والدها تجاه ما يسميها "الفاشية الخضراء"، فضّلت مهاجمتهم تحت غطاء مكافحة "الأيديولوجيا الإسلامية"، وتعني بها الإسلام الذي لا تعتبره دينا، وإنما "أيديولوجيا غازية" تشكّل المرأة رأس حربتها، لارتدائها الحجاب أو الجلباب، الوشاح أو الخمار أو البوركيني. وبينما ترى لوبان أن "الحجاب زي أيديولوجي وليس زيا دينيا"، يضيف جوردان بارديلا، أحد قادة حزبها، أن الحجاب "زي النضال ومن يسعى إلى الانفصال عن الجمهورية". خطاب الحرب على الإسلام صاحبته مطالب بإبادة المسلمين في فرنسا، خصوصا في الفضاء الافتراضي. في إحدى تغريداتها العنصرية، كتبت السياسية اللوبينية شانتال كلامير في سنة 2014: "الإسلام والمحمّديون طاعون القرن الحادي والعشرين ينبغي محاربتهم ودفعهم إلى حتفهم بدون تردد وبكل الوسائل الممكنة"، واكتفت مارين بوصف خطاب الإبادة المتفشّي داخل حزبها بـ"المتهور".
الواقع أن حزب لوبان لم يبتكر العنصرية على أساس عرقي في بلاد الأنوار، بل ورثها عن سيد الجمهورية الخامسة شارل ديغول، الأب الأسطوري لـ"فرنسا الحرة"، التي هبّت لتحريرها مستعمراتها المغاربية الأفريقية، حين كان جل الفرنسيين منبطحين أمام النازية. فلطالما ردّد الأب لوبان أقوال ديغول كما وثقها وزير التعليم في الحكومة الديغولية ألان بيرفيت، في كتاب (C’était De Gaullle): "إنه لأمر جيد للغاية أن يكون هناك فرنسيون صفر وفرنسيون سود وفرنسيون سمر. هذا يُبيّن أن فرنسا منفتحة على كل الأجناس، وأن لديها رسالة عالمية، شرط أن يظلوا أقلياتٍ قليلة، فنحن قبل كل شيء شعب أوروبي من عرق أبيض، ثقافتنا يونانية ولاتينية وديننا مسيحي. لنكن صريحين! هل رأيتم المسلمين بعمائمهم وجلابيبهم؟ واضح أنهم ليسوا فرنسيين! .. أتظنّون فرنسا قادرة على استيعاب 10 ملايين مسلم سيصبحون غداً 20 مليوناً ثم 40 مليوناً؟".
سياسات أبارتهايد انتهجتها الجمهورية الخامسة منذ السبعينيات والثمانينيات، عبر تشييدها أحياء هامشية ومهمّشة خارج مراكز مدنها
الحقيقة أن ديغول ذاته ورث عنصريته عن المارشال فيليب بيتان، أب فرنسا الفيشية، التي شرّعت في أكتوبر/ تشرين الأول 1940 سلسلة قوانين استهدفت "العرق اليهودي"، ومكّنتها من شرعنة اضطهاد اليهود، قبل أن تجبرهم على ارتداء النجمة الصفراء لتعزلهم عن باقي الفرنسيين، ثم ترسل عشرات الآلاف منهم إلى المحرقة. وبيتان ذاته ورث كراهية اليهود عن غيره، وغيره قد ورثها عن غير غيره. كراهية الآخر وقبح السياسات العنصرية التي مأسستها فرنسا متجذرة في مجتمعٍ نجح في التستر عليها بالإفراط في تسويقه صورة الأنوار والثقافة والفنون إلى جانب تصديره مستحضرات التجميل والعطور والموضة الفاخرة. كل ما هنالك أن ديغول وجمهوريته الخامسة قد حوّلا كراهية اليهود إلى كراهية العرب والمسلمين، بعدما حظرت عليهم جرائم النازية والفاشية والفيشية في الحرب العالمة الثانية مواصلة الجهر بمعاداة السامية.
تفسّر هذه العنصرية الدّفينة وجود "نظام أبارتهايد تُرابي واجتماعي وإثني" في فرنسا، حسب توصيف رئيس الوزراء الفرنسي السابق إيمانويل فالس، الذي صدم الفرنسيين باعترافه بمسؤولية الدولة في تكريس نظام الفصل العنصري بعد مرور عشر سنوات على انتفاضة سكان "الضواحي" في خريف 2005. اعترف فالس بسياسات أبارتهايد انتهجتها الجمهورية الخامسة منذ السبعينيات والثمانينيات، عبر تشييدها أحياء هامشية ومهمّشة خارج مراكز مدنها، رصّت فيها كتلا من العمارات والبلوكات الإسمنتية، لتأوي عائلات "المهاجرين" الذين يتحدر أغلبهم من أصول مغاربية.
فرنسا التي حفرت في أعلى مبانيها العمومية شعار الثورة الفرنسية "حرية - مساواة - إخاء"، فصلت ملايين المسلمين عن المجتمع، وشيّدت لهم 1436 حيّا معزولا في ضواحي المدن التي تأوي 5.4 ملايين شخص، يعيش حوالي 40% منهم تحت خط الفقر، إذ تقدّر نسبة البطالة في ضواحيها بـ23.4% مقابل 8.9% في باقي أنحاء فرنسا، ويبلغ فيها معدل بطالة الشباب 33%، حسب المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية للعام 2018.
انضمت إلى حزب زيمور "الاسترداد" أكثر قيادات حزب لوبان تشدّداً، بمن فيهم ماريون مارشال لوبان، حفيدة جان ماري لوبان
بدلا من مساعدة من لم يستطع من سكّان الضواحي الخروج من الهامش الذي فُرض عليهم مثلما فُرضت الغيتوهات على يهود بولندا، شيطنهم الإعلام والسياسيون، بمن فيهم يساريو الكافيار وفلاسفة التلفزيون، وفي مقدمتهم برنار هنري ليفي وأندريه غلوكسمان وألان فينكيلكروت، وغيرهم من مثقفي الكراهية الذين لم يجرؤوا على محاسبة فرنسا الفيشية على جرائمها ضد اليهود، ووجدوا في شيطنة المسلمين متنفّسا لاضطراباتهم العُصَابية. باسم قيم الجمهورية واللّائكية أطلقوا على مسلمي الضواحي منذ الثمانينيات تهمة "الجماعاتية الإسلامية"، ثم جاء ماكرون، ليدقّ آخر مسمار في نعشهم بعدما ألصق بهم تهمة "الانفصالية الإسلامية".
ماكرون الذي ادّعى أخيرا الدفاع عن المسلمين والمسلمات ومناهضة عنصرية لوبان، حارب حتى تمّ اعتماد قانون "مكافحة الانفصالية الإسلامية" الذي يمنع التلميذات المسلمات من ارتداء الحجاب في المدارس، ويمنع أسرهن من تعليمهم في البيت بعد فصلهم من المدرسة، ويعاقب القانون بإسقاط الجنسية، وسحب الإقامة وإغلاق دور العبادة كل من ثبت ارتكابه جريمة "الانفصالية الإسلامية" المُبهمة. وكان ماكرون قد دفع في سنة 2017 بقانون مكافحة الإرهاب الذي ما زال يسمح للسلطات بمعاقبة استباقية تستهدف المسلمين، من دون أن تُوجّه إليهم أي تهمة ومن دون مُحاكمتهم، وتكتفي بمعاقبتهم بناءً على معلومات سرّية تخصّ أفعالا قد يرتكبونها في المستقبل، في تشخيصٍ عجيب لما سمّاه الكاتب البريطاني جورج أورويل "جريمة الفكر". لكن التمييز العنصري الذي أبدع فيه ماكرون لم يكن صارما بما يكفي تجاه المسلمين، حسب السيدة لوبان، التي صاغت برنامجا مضادّا تضمّن مشروع قانونٍ يجرّم ارتداء الحجاب و"الأزياء الإسلامية" في كل الأماكن العامة، في أي فضاء خارجي متاح للجمهور، حتى لا يبقى للمحجبات والمجلببات إلا أن يخترن بين قضاء عقوبة الحبس في بيوتهن، أو التخلي عن الحجاب أو مغادرة البلاد. وأشهرت لوبان سيف "الأولوية الوطنية" في وجوه "الأجانب"، متعهدة بتخصيص أهم الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها الحصول على العمل والسكن "للفرنسيين"، وتعني بهم ما يعرف في أدبيات الحزب بـ"الفرنسي الأصيل".
لقد فاز ماكرون، وانهزمت مارين وانتصرت أفكار آل لوبان، ولن يفارق الخوف من المستقبل عرب فرنسا ومسلميها وسكان ضواحيها، بعدما تعهّد ماكرون في خطاب الفوز بإيجاد أجوبةٍ لمن صوّتوا لصالح اليمين المتطرّف. ويعني ذلك أن الدولة الفرنسية ماضية في خدمة اللوبينية، وأن سياساتها السلطوية تُمهّد الطريق للفاشية، وتُحوّل تدريجيا دولة القانون إلى دولة بوليسية، ترتكز على قوات الشرطة القمعية التي لخّص ماهيتها عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود في جملة واحدة: "الشرطة تعتدي لصالح ماكرون وتصوّت لصالح لوبان".
مؤشّرات على أن فرنسا ماضية نحو المواجهة، بين الدولة العنصرية، بمؤسساتها وأحزابها وقوانينها وقاعدتها وإعلامها وآلتها القمعية، ومن تعتبرهم "أجانب"، "جماعاتيين" و"انفصاليين"
استحواذ اليمين المتطرّف بكل ألوانه على ما يقارب نصف أصوات الناخبين، وتطبيع خطاب الصحافي الصّهيو - فاشي إيريك زيمور في المشهد السياسي وبروز مليشيات نازية مسلحة مثل (Recolonisons la France)، وبروز خطاب "المقاومة" في أحياء الضواحي، كل هذه مؤشّرات على أن فرنسا ماضية نحو المواجهة، بين الدولة العنصرية، بمؤسساتها وأحزابها وقوانينها وقاعدتها وإعلامها وآلتها القمعية، ومن تعتبرهم "أجانب"، "جماعاتيين" و"انفصاليين". ولا ينبغي استبعاد اصطدام عنيف ينادي به حزب زيمور "الاسترداد"، الذي انضمت إليه أكثر قيادات حزب لوبان تشدّدا، بمن فيهم ماريون مارشال لوبان، حفيدة جان ماري لوبان، التي أعلنت أيضا انضمامها إلى "جيش الاحتياط"، للدفاع عن فرنسا ضد الإسلاميين، وقالت: "هم يغتالون أطفالنا، ويقتلون شرطتنا، ويذبحون قساوستنا. أفيقوا!".
ستنسحب مارين لتحمل ماريون مشعل آل لوبان من أجل فرنسا بيضاء مسيحية لا مكان فيها للأجانب عموما، وللعرب والمسلمين تحديدا، فمن سيوقف الزحف اللوباني نحو هذا الحلم المستحيل؟ هل ستتصدّى له القوى التقدّمية التي تؤمن بالتعدّدية والتعايش السلمي والعدالة الاجتماعية، وينخرط فيها جل العرب والمسلمين والسّود؟ هل ستصمد الديمقراطية الفرنسية في وجه حكومة ائتلاف ماكرو - لوبانية إن فشل حزب ماكرون "الجمهورية إلى الأمام" في الحصول على 50% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية المقبلة، ونجحت لوبان في الاحتفاظ بقاعدتها التصويتية؟ هل ستحقّق قوى "اليسار" معجزة الدخول في حكومة ائتلافية، بدلا من لوبان، إن خسر حزب ماكرون؟ تفصلنا نحو سبعة أسابيع فقط عن معركة انتخابية حاسمة، ستجيب عن بعض هذه الأسئلة، وتقرّر مصير فرنسا للسنوات الخمس المقبلة، وربما إلى أبعد من ذلك.