"فاغنر" إذ تسعى إلى هزيمة الجيش الروسي
منذ أيام، وقوات "فاغنر" تخوض حربها الشرسة وغير المسبوقة في حدّتها على جبهتين: جبهة باخموت التي ما زالت عصيةً على الروس منذ وصول قواتهم النظامية إليها بعد نحو ثلاثة أشهر من الحرب، وجبهة القرار العسكري في موسكو، فيما يخصّ باخموت وسواها، فقوات "فاغنر" تتدخّل حين تتعثر القوات النظامية، ما أوهم رئيس هذه المجموعة العسكرية بأنه يستطيع أن يُملي الشروط، بل ويوسّع من دائرة نفوذه لدى الكرملين، وقضم جزءٍ من صلاحيات رئاسة الأركان ووزير الدفاع دفعة واحدة.
تراهن "فاغنر" على الحسم الميداني لتكسب النفوذ السياسي، فإذا سيطرت على باخموت، وهذا مرجّح في نهاية المطاف، فسيكون هذا أكبر انتصار روسي في الحرب منذ أشهر. وهو ما يفسّر شراسة القتال في المدينة الصغيرة التي يجمع المحللون على أنها لا تتمتع بأهمية استراتيجية، لكن القتال عليها يجعلها تكتسب أهمية استثنائية ورمزية، وهو ما يدركه جيداً الرئيس الأوكراني زيلينسكي الذي رفض ضغوطاً أميركية معلنة للانسحاب منها، فهو يعي، على ما يبدو، أن مصير المدينة ليس مرتبطاً بمقاومة قواته وحسب، بل وبتغليب دائرة نفوذ على أخرى داخل الكرملين، وهو لا يريد أن يمنح قوات "فاغنر" وغيرها بالتأكيد نصراً سهلاً.
الأزمة أكبر في وزارة الدفاع الروسية التي يواصل رئيس المجموعة مهاجمتها، بل واتهامها بالخيانة، فهي تعرقل نصره هناك، كما يقول، ولا تزوّد قواته بالذخيرة المطلوبة ولا الغطاء الناري على أطراف الجبهة ليتقدّم بيسر أكثر في الجزء الغربي من باخموت، فوزارة الدفاع لا تريد مثل زيلينسكي أن تمنح "فاغنر" فرصة ادّعاء النصر، ولكنها لا تستطيع أن تبدو بمظهر من يسعى إلى هزيمة روسيا في معركة صغيرة يكسب من ورائها الأوكرانيون نصراً عزيزاً يكرّس ما يسعون إليه من أسطورة عسكرية، فعلى "جالوت" أن يخسر، ولا بديل لذلك سوى بانتصار أوكرانيا في الحرب، كما قال زيلينسكي في مؤتمر ميونخ للأمن. فماذا تفعل وزارة الدفاع الروسية لإضعاف "فاغنر" من دون أن تنتصر كييف؟ تحجب عنها الذخائر، تضيّق عليها فرص تجنيد المقاتلين الجدد، وتحاصر أي حضور لرئيسها في الدوائر المحيطة ببوتين. وقد نجحت على الأقل في استبعاده من حضور الخطاب الذي ألقاه الرئيس الروسي بمناسبة مرور عام على الحرب، لكنها (وزارة الدفاع الروسية) اضطرّت لمجاراة رئيس "فاغنر" فيما يتعلق بالذخيرة، وسمحت له، على مضض، بفتح مراكز للتجنيد في 42 مدينة، لكنها وقد فعلت هذا عادت إلى التخلّي عن قوات المجموعة في باخموت، وتركتها عارية الظهر وبلا غطاء ناري، ما يعني تحويل نصر "فاغنر" إلى نصر مرير بهدف إخضاعها، وإعادتها إلى حجمها الطبيعي، مجرّد مليشيا لا أكثر، إذ لا بديل للدول عن الجيوش حتى لو افتقدت للمرونة في القتال، واتسم تقدّمها بالبطء في المعارك التي كان الظن أن موسكو ستحسمها بيُسر بالغ.
لا تستطيع "فاغنر" ولا رئيس الشيشان قديروف ومسلحوه الحلول مكان القوات الروسية النظامية، لأسباب كثيرة. لكن صعودهما في مواجهة هذه القوات يؤشّر إلى خلل كبير في الجيش الروسي الذي يحوز أسلحةً متقدّمة جداً وواسعة التدمير، لكن بناءه وعدم تحديثه على صعيد التدريبات والخطط العسكرية التكتيكية على الأقل جعلاه أشبه بعملاقٍ ضخمٍ بالغ القوة، لكن ضخامته هذه تُقعده، وتجعله ثقيل الحركة، ما يعرّضه لتلقّي الضربات الصغيرة والمؤلمة، من دون القدرة على الردّ بقوته الحقيقية المجهّزة لمعارك كبرى وليس حروب شوارع.
هذا حدث مع الجيش السوري في القصير عام 2013، ولولا تدخل مليشيا حزب الله الأرشق والأفضل تدريباً على صعيد مهارات المقاتلين لما حقّق الأسد انتصاره الدموي والكارثي هناك. وعلى خلاف حزب الله، تستطيع "فاغنر" تحقيق النصر، ولكنها لن تستطيع استثماره سياسياً ضمن معادلات القوة والنفوذ في روسيا، فهي خسرت ما قدّرته وزارة الدفاع الأميركية بنحو تسعة آلاف مقاتل في باخموت التي يدافع عنها بضعة آلاف من الجنود الأوكرانيين، وهذا ليس نصراً في كل الأحوال، بل أحد أشكال الهزيمة. وإذا كان زيلينسكي قد نجح في شيءٍ ففي هذا: بناء صورة لجيش بلاده أكبر من قدرة هذا الجيش وقوته الفعلية على الأرض.