فرنسا ... المبالغة التي تحمي الحريات
يحق للفرنسيين أن يبالغوا في تصوير الانحرافات الخطيرة لأوضاع الحريات في بلدهم، حتى ولو وصل الأمر بكثيرين منهم إلى اعتبار أن هذا البلد دخل مرحلة "الدولة البوليسية". يحق كذلك للأميركيين أن يستحضروا صور هتلر في بعض سلوكيات دونالد ترامب وجماعاته، وإن كان في التشبيه مغالاة، إلا أنها تكون حميدة وحلالاً في حالات الدفاع عن الحقوق الأساسية للبشر. كان يمكن لما يحصل في فرنسا من عنف متكرر ترتكبه الشرطة، وإخلال متمادٍ في علاقة السلطة بالمواطنين، وتجرّؤ على حريات صارت بديهية منذ عقود في بلدان ليبرالية، ممزوج بعنصرية تترجَم في نمط التعاطي اليومي مع السكان، أن يكون مجرد انحرافاتٍ فردية تحصل في كل مكان، بالتالي لا داعي لكل هذا الضحيح ولهذه الحملات الشعبية والإعلامية. لكن ما هو حاصل في محاولة إتاحة العنف بموجب القانون، والتضييق على الحريات بشكل يبدو منظماً، منذ موجة السترات الصفراء قبل عامين، فاق حدود "التجاوزات الطبيعية" مع ما يحمله المصطلح من تناقض لغوي. ذلك أن هذه الانحرافات تسير منذ فترة ليس بقصيرة في مسار تصاعدي، وهو ما ربما يكون دفع حكومة إيمانويل ماكرون إلى السماح لنفسها بتقديم مشروع قانون لمصادرة حريات معينة، على هيئة قانون "الأمن الشامل" الذي يمنع تصوير أفراد الأمن بدافع "سوء النية" (ماذا تعني بالضبط؟) حتى خلال ارتكاب مخالفات كتلك التي صارت تتكرر بوتيرة شبه أسبوعية تحت حكم اليمين خصوصاً.
يحق للفرنسيين المبالغة في استفظاع انتهاكات الحريات لأن لا حصانة طبيعية تحمي شعباً أو أرضاً حيال الرغبات التسلطية والفاشية. مثلما كانت سورية ما قبل حكم البعث و"دولة التوحش"، تعرف ديمقراطية معقولة جداً، فإن حقبات سوداء كالنازية وُلدت في مراحل كانت فيها ألمانيا تعيش حريات مقبولة وديمقراطية وتعدداً حزبياً وانتخابات نزيهة إلى درجة أنها أتت بهتلر وعصابته. لذلك، ربما يدرك الفرنسيون أنهم لا يشكلون استثناءً في هذا السياق، وأن بلدهم معرّض، تماماً مثل أي بلد آخر، لخطر تسلطي حقيقي في عالمٍ سمته الرئيسية صعود نجم الشعبويات والاستبداد والعنصرية والفاشيات الجديدة.
من دون هذه المبالغة في ردة الفعل الشعبية والإعلامية وفي التظاهرات العنفية ضد الانحرافات الاستبدادية في فرنسا، فإن الديمقراطية قد لا تصمد في وجه المد القمعي. من دون هذه المغالاة في رفض المس بالحريات، فإن السيل الديكتاتوري لن يجد ما يوقفه، فحكمة التاريخ تفيد بأن التسلط سهل، بينما الحرية صعبة، تماماً كحكاية الهدم والبناء.
يمكن فهم ردة الفعل الفرنسية الجدية على الانتهاكات المتكررة للحريات في سياق إحساس عميق بالخطر وفهم واعٍ لاحتمال تكرار سيناريوهات تاريخية مظلمة، قديمة أو حديثة، في فرنسا، في حال تهاون سكانها مع نزعات دخيلة صارت حكومة ماكرون ووزير داخليتها رمزاً لها. ولولا هذه المبالغة في ردة الفعل، لما اعترف ماكرون نفسه بأن ما يحصل فيه عار لفرنسا. ولولاها لما خرجت أصوات من داخل حكومته تنادي بسحب قانون الأمن الشامل من التداول. وفي ظل صمت اليمين، يبقى الطرف الوحيد الذي دافع ولا يزال بوقاحة عن هذا العنف الموثق بالفيديو من دون علم مرتكبيه، هو نقابة الشرطة التي لم تخجل في وصف قرار توقيف عناصر الأمن الذين اعتدوا على منتج موسيقي أسود البشرة داخل الاستوديو الخاص به في باريس، بأنه "قاس جداً".
يحق للفرنسيين المبالغة في تصوير النزعات التسلطية التي تهدد حرياتهم ومجتمعهم، لا بل ربما تكون المبالغة تلك واجباً وليس مجرد حق حيال المقدس الوحيد بالنسبة لاجتماعهم: الحرية. أما المبالغات عندنا، في بلدان لا حق فيها بالعيش أصلاً قبل الحديث عن الحرية، واستفظاع انتهاكات الشرطة ورجال الأمن في باريس، وإنزال مقارنات مضحكة بين ما يحصل في تظاهرات الشانزيليزيه وحارات القاهرة وصنعاء ودمشق، فإنما هذا لا يفعل إلا جعلنا نضحك على أنفسنا، قبل أن نتحول إلى مسخرة للعالم.