فرنسا: اليمين المتطرّف والأكثر تطرّفاً
كما غيره من العقائد المتطرّفة، دينية كانت أو سياسية، يمينية أم يسارية، فقد أجمع المؤرّخون وعلماء الاجتماع على أنّ ظهور اليمين المتطرّف وتطوّر أنماط التعبير عنه تاريخياً تأثر أساساً بمسار الأزمات الاقتصادية التي سادت مؤقتاً في المجتمعات، وتجسّدت من خلال عدة مظاهر، منها: ارتفاع معدّل البطالة، خصوصاً لدى الفئات العمرية الشابّة، كما انخفاض مستوى القدرة الشرائية. إضافة إلى ما يمكن تسميته العامل الاقتصادي، تفاعل عامل آخر معه ومع تطوّره السلبي، وتصاعد تأثيره في المجتمع، وتمثّل بأزمة الهوية داخل المجتمع المدروس، كما اصطلح علماء الأنسنة على تسميته بـ"الأزمة الحضارية". وتتعلق هذه الأخيرة بالاعتقادات والقناعات والأخلاق والعلاقات الإنسانية. وبالتالي، يمكن القول إنّ التطور التصاعدي للفكر اليميني المتطرّف يعتمد أساساً على تأجيج الخطاب التحذيري من الآخر، المنتمي الى عرقٍ مختلف، أو مكان جغرافي آخر، أو عقيدة دينية أو مذهبية مختلفة عن تلك السائدة في المجتمع المعني. كما يستند إلى أسلوب ترهيبي فعّال، يعزّز تجذّر القلق بصورته الجماعية. ومنذ 2500 عام، أشار أرسطو إلى أنّ من أهم أسباب نجاح التراجيديا في المسرح اليوناني باستقطاب المتابعين وبالتأثير على الجماهير قدرتها على النجاح في الاستثمار في مصدر كوني، يشمل جميع أفراد البشرية قاطبة، وهو يتعلق بحتمية موت الكائن الحي. إضافة الى ذلك، لدى هذا الكائن القدرة على أن يعرف مسبقاً، ومنذ بدء تباشير وعيه، بحتمية نهاية الحياة. وهذا كله في المحصلة قادرٌ على تحريض التماهي الذاتي للمتابعين مع التراجيديا والمأساة والخوف.
في المجتمعات الحديثة، يُضاف إلى ما سبق من تأثير "التراجيديا اليونانية" في الوعي الجمعي، انتشار واسع لوسائل الإعلام، التقليدي منها والحديث. هذا الانتشار، وتأثيراته، يضيف ما يمكن أن نسميه مصداقية أوسع وأكثر تأثيراً لتلك التراجيديا على الوعي المشترك، والتي يتمكن الإنسان من تطويرها من ناحية الشكل والمضمون.
التطور التصاعدي للفكر اليميني المتطرّف يعتمد أساساً على تأجيج الخطاب التحذيري من الآخر، المنتمي الى عرقٍ مختلف، أو مكان جغرافي آخر
في فرنسا، كان المشهد السياسي، حتى أشهر قليلة مضت، يحتوي على حزب يميني متطرّف "تقليدي"، فحزب الجبهة الوطنية هذا، والذي أسّسه وترأسّه جان ماري لوبان عام 1972، استمر في تصدّر المشهد اليميني المتطرّف مع خطاب عنصري واضح، إضافة إلى معاداة للسامية استقاها الأب المؤسس من كونه قد شارك سابقاً في قتل الجزائريين وتعذيبهم في أثناء الاحتلال الفرنسي الجزائر، ما ينمّ عن حقد متأصّل ومستدام يتعلق بالأجانب المسلمين. إضافة إلى شراكته في إطلاق هذا المشروع السياسي مع أحد قدماء الحركة النازية الفرنسية وعملائها. وقد انتقلت مقاليد قيادة الحزب عام 2011 إلى ابنته مارين، والتي حاولت تهذيب عنصرية خطاب الحزب، وتشذيب مواقفه المعادية للأجانب وللإسلام وللسامية. وقد سعت إلى تجميل الشكل من دون العبث بالمضمون كثيراً. وفي هذا الإطار، غيّرت اسم الحزب ليصبح "التجمّع الوطني" سنة 2018. وقد ساعدها هذا التحوّل في الشكل للوصول إلى فئة أوسع من الناخبين، ما عزّز من حظوظها الانتخابية في الانتخابات الرئاسية أخيراً ومنافستها الجدية، قبل خسارتها، الرئيس إيمانويل ماكرون.
قبل أشهر، برز مرشّح يميني متطرّف للغاية، جاء به الإعلام من أوساط الصحافة الجدلية اليمينية. إيريك زيمور هذا، كان يخرج بشكل يومي على محطّة إخبارية يمينية يطرح "تراجيديا زيمورية" مستلهماً نظرية "الإحلال الكبير" أو "الاستبدال الكبير" التي تتحدّث عن تضاعف أعداد الأجانب، وحلولهم محلّ الفرنسيين "الأصليين". إضافة إلى هذا الترهيب العنصري المفضوح، غاص خطابه اليميني المتطرّف جداً في التعرّض بلا وجل ولا تجميل للمكونات الدينية الأخرى، خصوصاً الإسلام، معتبراً أنّها مصدر للخطر ولانهيار القيم وللفلتان الأمني وللتراجع الاقتصادي.
الأنانية السياسية تطغى على أيّ مصالح تشاركية، حتى عند العنصريين من المرشّحين
في بداية تسليط الأضواء السياسية عليه، بعد أن تمتّع بالأضواء الإعلامية، ظنّ مراقبون أنّ هناك عملية توزيع أدوار بينه وبين لوبان. بحيث يلعب هو دور "السيئ" وهي تحافظ على تجميلها المتصنّع لتطرّف حزبها، ما يرضي جميع الأطراف الناخبة التي يسعى إلى تجميعها اليمين المتطرّف، فهناك الطبقات الشعبية والعمالية والفلاحية التي يحاول "التجمّع الوطني" أن يداعب مخاوفها الاقتصادية، بالتركيز على ضعف القدرة الشرائية والمنافسة الأجنبية لفرص العمل الوطنية، مبتعداً عن العنصرية الفجّة المعهودة به. وبالتالي، هو يترك لزيمور الفرصة لاستقطاب أفرادٍ من الطبقتين الوسطى والثرية الكارهين للأجانب وللمسلمين. وحين تحين ساعة الاقتراع، تتضافر جهود كلّ الفئات تلك وأصواتها، لتحصل لوبان على مفاتيح قصر الإليزيه. وقد اعتبر بعضهم أن خلافات لوبان وزيمور شكلية، وأنّهما سيعودان حلفاء بصورة أو بأخرى. لكنّ هذه الحسابات أضحت ضعيفة، وقد تبيّن أنّ الأنانية السياسية تطغى على أيّ مصالح تشاركية، حتى عند العنصريين من المرشّحين.
في ظل التنافس بين اليمين المتطرّف وذاك الأكثر تطرّفاً، صار من شبه المحتم أن تجهد الأطراف السياسية الأخرى، خصوصاً اليسارية المعتدلة، إلى العودة إلى المنافسة بعد فشل بنيوي كاسح، عبر التشبث بما ميّزها أساساً، فالمتطرّفون يدافعون عن الهوية الوطنية أمام التهديد الأجنبي، أما الساعون إلى نمو متوازن لجميع فئات المجتمع، من دون تمييز عرقي أو ديني أو جندري، فهم مهتمون بالدفاع عن العمل بقيمه المختلفة أمام الاستغلال غير الإنساني من حيث أتى.