فرنسا بين البوليس السياسي والإسلام السياسي

23 اغسطس 2022

سيارة شرطة فرنسية في ليموج وسط فرنسا (4/8/2022/فرانس برس)

+ الخط -

البوليس السياسي جزء من كلّ الدول، بل يمكن أن نقول إن دول العالم الثالث تعلمت، وما زالت تتعلم، تقنيات التجسّس المخابراتي من كبرى الدول. وإذا كانت الدول الديمقراطية تقوم بعملها في إطار ما يسمح به قانون البلد، محاولة احترامه ولو ظاهريا، فإن قريناتها في بلداننا العربية والإسلامية تعلم أن ظهرها محميٌّ في كل الحالات، ما يطلق يدها كي تفعل ما تشاء، بحجّة المصلحة الكبرى للوطن.
في فرنسا، أُمّ الديمقراطيات الغربية، ما زالت الشؤون الدينية تابعة لوزارة الداخلية، وإذا كانت إدارة شؤون كلّ الديانات تجري في هذا الإطار، فما بالك بالشأن الديني الإسلامي، فكلّ خطب الجمعة تسجَّل وتحلَّل، ناهيك عن الملتقيات الإسلامية الدعوية التي ترى فيها الجمهورية بروزاً لدين جديد على أراضيها، وهي التي اعتقدت أنها انتهت من مشكلات الأديان والتدين، عندما ذبحت الكنيسة على أعتاب هيكل العلمانية، تلك العلمانية التي تُستَغَل، وكأنه الركن الرابع لشعار فرنسا المعروف "حرية، مساواة، أخُوّة"، ولا ضير إن ضرب هذا الشعار الأخير حرية التديّن، ونقص من مساواة المواطنين، وفرض حق الكبير على الصغير من دون مراعاة لأية أخوة.
بعد هذه المقدمة، وقبل الدخول في صلب الموضوع الذي يهمنا، وهو الجدل الكبير التي تعرفه فرنسا منذ أيام، وتُفتتَح به النشرات الإخبارية، وهو قرار طرد الداعية حسن إيقيوسن من فرنسا إلى بلده الأصلي المغرب، فإنّ وزير الداخلية جيرالد موسى دارمنان أو السي "موسى" (!) لا يفتأ يذكر اسمه الثاني، إبراء لذمته من أيّ عنصرية مقيتة، إذ كيف يكون عنصرياً وهو يحمل اسم جده لأمه "موسى واكيد"، الجندي الجزائري الحركي الذي كان جندياً في صفوف وحدات المشاة الجزائريين، المعروفين أيضاً باسم توركوس، وكانوا عماد الجيش الاستعماري الفرنسي.

مع العطلة الصيفية وغياب النقاش السياسي الجاد، وجدت الصحافة الفرنسية ضالّتها في قضية إيقيوسن، وركبت عليها

منذ إعلانه طرد الداعية، عرفت القضية عدة تطورات، وخصوصا أن المحكمة الإدارية في باريس أوقفت قرار الوزير، معتبرة قرار الطرد عقوبة مفرطة مجانبة للصواب، فهي تمسّ الحياة الشخصية والعائلية لرجلٍ ولد وترعرع في فرنسا منذ 58 سنة، له خمسة أولاد و15 حفيداً كلهم فرنسيون. وقد أوضحت المحكمة في قرارها أنّ الاتهامات الموجّهة إلى الداعية لم تكن مصحوبة بالحجج اللازمة، ما شكّل ضربة قاسية لوزير الداخلية، ولا سيما أنها (المحكمة) اتخذت قرارها في هيئة جماعية مشكّلة من ثلاثة قضاة، لا بحكم قاض واحد، كما يحق لها. الأدهى إعطاء مهلة ثلاثة أشهر لوزارة الداخلية الفرنسية لتسوية وضع الرجل!
قال وزير الداخلية إنّه استأنف الحكم أمام مجلس الدولة الفرنسي، وصرح يوم 8 أغسطس/ آب الحالي، أمام القنوات التلفزيونية، بأنّ "مهمته تقتضي منه ضمان أمن الفرنسيين وحمايتهم، أي حمايتهم من الخطاب الانفصالي، المعادي للسامية، الذي لا يعترف بالمساواة بين الرجل والمرأة، والداعي إلى الإرهاب". ثم أضاف: "لا مكان على أرض فرنسا لمن يعادي قيم الجمهورية الفرنسية، ولمن يشكّك في حقيقة الهجمات الإرهابية التي عرفتها فرنسا، ويعتبر ذلك مجرّد مؤامرة. منذ توليَّ هذه الحقيبة الوزارية، طردتُ 74 إماماً ذوي خطابات انفصالية، وسأستمر على هذا المنوال في مهمتي. إذا أعطانا مجلس الدولة الحق فبه ونعمت، وإلا غيرنا القانون، حتى يتسنّى لنا طرد كل من روّج خطاب الكراهية". هذا يعني أنّ رجال القانون وجب أن يكونوا تحت طاعة رجال السياسة، إذ يستشف من كلام الوزير تهديد غير مقنع لكلّ من يعوق طرد الداعية بدعوى احترام القانون الجاري به العمل، وكأنه يقول لمجلس الدولة وللقضاة: إذا كانت الترسانة القانونية الحالية التي عُزِّزت أخيراً بقانون "محاربة الانفصالية" غير كافية، فستعمل الحكومة على تغيير القانون، كي يتلاءم مع متطلباتها "السياسوية"، حقيقة "الأمنية" ظاهرياً. وهنا نتساءل: لماذا لم ترفع الحكومة الفرنسية دعوى على الداعية لمحاكمته، وإذا دين فلتحبسه ثم لتطرده!
مع العطلة الصيفية وغياب النقاش السياسي الجاد، وجدت الصحافة الفرنسية ضالتها في القضية، وركبت عليها، وروّجت عدة فيديوهات، يعود بعضها إلى أكثر من عقدين، أخطأ فيها الداعية بتصريحات تتعلق بمواضيع جد حسّاسة في فرنسا، لا في غيرها، مقتطعة أجزاء من تصريحاته خارجة عن سياق الكلام. وقد قابلت حملة التشهير الإعلامية هذه حملة تضامن محدودة، تزعمتها شخصيات فرنسية غير مسلمة، إذ إنّ سيف الاتهام بالتطرّف واقف على رأس كلّ من سوّلت له نفسه إعلان تضامنه مع الداعية، بلغ حد مطالبة بعض السياسيين إغلاق كلّ مسجد يعلن تضامنه.

استهداف حسن إيقيوسن، حتى ولو لم يجرِ طرده، حقق عدة مكاسب لوزير الداخلية الذي يتطلع إلى خلافة الرئيس ماكرون

السؤال الذي يهمنا: لماذا استهدف هذا الداعية وليس غيره، فخطبه المنبرية تدعو إلى تديّن متطرّف، لكنّه لا يتطرّق لا إلى ما يجري حوله، ولا إلى الواقع المعيش، ولا إلى السياسة، بل سمعت بنفسي خطيباً في مسجد وسط باريس، يقول إنّ المرأة لا تصلح أن تخرج من بيتها إلّا لسببين، إلى بيت زوجها أو قبرها! لكنّ هذا الخطيب المتزمت في مأمن من خطر البوليس السياسي، ما دام يدعو في المنبر لولي الأمر، ويعتبر أنّ طاعة ولي الأمر واجبة بشرط القرآن والسنة، وأنّ المشاركة في الانتخابات بدعة وأمر منكر، وأنّ الأمر بيد أهل الحلّ والعقد، ولا تجوز منازعتهم.
استهداف حسن إيقيوسن، حتى ولو لم يجرِ طرده، حقق عدة مكاسب لوزير الداخلية الذي يتطلع إلى خلافة الرئيس ماكرون، منها إظهاره الأكثر حزماً تجاه التطرّف الإسلامي، ثم تغطية فشله الذريع في أحداث نهائي دوري أبطال أوروبا نهاية مايو/ أيار الماضي، وهو الفشل الذي كاد أن يطيحه، بعدما أسقط رأس محافظ باريس، بعد تقرير مجلس الشيوخ الفرنسي.
إيقيوسن فرنسي قلباً وقالباً، ولو لم يحمل جنسية البلد، بيد أنّه يقضّ مضاجع البوليس السياسي الفرنسي، كونه ينتمي إلى ما يسمى الإسلام السياسي قولاً وفعلاً .. قولاً، لأنّه داعية جد معروف، يتقن لغة موليير ويعرف تصريف معانيها، ومن ثمّة يصل، بفصاحته، إلى قلوب شباب الجيلين الثاني والثالث للمهاجرين العرب وهو أحدهم. فعلاً، لأنّه ينتمي إلى جمعية "مسلمي فرنسا" (اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا سابقاً) القريب من جماعة الإخوان المسلمين، وهو بالتالي مزعج مرتين، إذ لا يشبه الخطيب الذي ذكرنا، لا في خطابه ولا في طاعته، وهذا بيت القصيد.

باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط
مهندس معلوماتيات، باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية، نائب عمدة سابقا في الضاحية الباريسية.
عمر المرابط