فرنسا تكشف الشرّ من بين نخبتها
النخبة الفرنسية من عالم الأكاديميا والثقافة في مرمى نيران رواية واقعية. واحدة من بناتها، كاميل كوشنير، أصدرت كتاباً تسرد فيه قصة أخيها التوأم فيكتور. وهذا اسم مستعار، الغرض منه منع تسليط الأضواء عليه. القضية أخطر من زوبعة إعلامية. في هذا الكتاب: كاميل تعيش مع عائلتها الصغيرة. أخوها التوأم فيكتور الذي تدور الحكاية حوله، والثاني جوليان، البكر. مع أمها ايفلين بيزييه، الجامعية والكاتبة والنسوية الشهيرة، وطليقة برنار كوشنير، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، المعروف لدى إعلامنا "رجل المهمات الصعبة". "طليقته" قلنا، فالرجل الذي تزوجته إيفلين بعد طلاقها من برنار كوشنير، والذي يعيش معها ومع أولادها الثلاثة، هو أوليفه دوهاميل. واحد من النخبة الرفيعة ذاتها.
عنوان الكتاب "العائلة الكبيرة". وتقع أحداثه في نهاية الثمانينات. كاميلا وتوأمها فيكتور لا يتجاوزان الثالثة عشرة من عمريهما. عندما يحين الليل، يتسلّل أوليفيه زوج الأم، إلى غرفة نوم فيكتور. وخلال هذه الزيارة يغْرف أوليفيه من جسد فكتور أنواعا شتى من المتع الجنسية. يفَضْفض فيكتور لتوأمته كاميل، ويروي لها قصة هذه الليالي المريبة. ولكن كاميل تطلب منه السكوت عن الأمر، فالمراهقون لا يملكون اللغة التي تتيح لهم البوح، وخصوصاً أن أوليفيه هو زوج الأم المثالي، وإنه قال لفكتور، بعدما سأله عن طبيعة هذه المطارحات الليلية، إن الأمر "عادي"، وإن "كل الناس تقوم بذلك". فوق أن الأولاد يعتبرونه الأب الحنون الذي يسهر على راحة زوجته، وعلى صحتها النفسية، وقد تدهورت بعدما انتحرت والدتها، وأدمنت الكحول. فيما هو منكبّ على الاهتمام بالأولاد. تقول كاميل عن تلك الحقبة: "أمام غرق أمي في الكحول، كان هو (أوليفيه) ينظّم إجازاتنا، يصطحبنا إلى السينما، يحثّني على دراسة القانون .."
كتاب أحدث زلزالاً في الأوساط المعنية وغير المعنية. استقال أوليفيه دوهامل من رئاسة المؤسسة الجامعية العليا، ومن المجلة التي يديرها والبرنامج الإعلامي الذي يحلّل فيه السياسة الداخلية
بعد سنوات، عندما تبلغ كاميل، مع فيكتور، الثلاثين من العمر، تكشف عن هذا السرّ لأمها. لكن هذه الأخيرة تقرّر حماية زوجها وتطلب منها الصمت. والمحيط كله يعلم ويصمت. إلا الخالة، ماري فرانس بيزيه، الممثلة التي لا تقلّ شهرة عن شقيقتها. هذه الخالة تحاول أن تخرج الموضوع من تواطؤ الصمت، لكنها لا تفلح. ويتسبّب هذا الفشل بتوتر العلاقة بينها وبين شقيقتها إيفلين. لذلك تقول كاميل في كتابها: "أنا لا أكشف سراً في هذا الكتاب. الجميع كان يعلم". الجميع؟ طبعا لا. المقصود بهم فقط المحيط الضيق من عالم النخبتَين الأكاديمية والثقافية.
المهم أن كاميل، في هذه الأيام بالذات، قرّرت أن تنْسف هذا الصمت، وتسْرد القصة من بدايتها. ليس بغرض الفضيحة أو الانتقام، إنما لكي تتوازن حياة فيكتور النفسية، فما يعصف به من آلام ومن تذكّر مستمر لما كان يفعل به زوج والدته، وكان بمثابة أبيه، في ذلك العمر الطري، بقي يحرث في روحه بالأوجاع، مدمّراً دواخله النفسية. ويقول فيكتور إنه قرأ مخطوطة الكتاب مرتين، ويضيف لصحيفة لوموند: "أؤكد لكم أن ما كتبته شقيقتي حول تصرّفات أوليفيه دوهامل معي صحيح".
ويُلحظ على هامش الكتاب الجلَل، أو في قلْبه، اندفاع بالمعاني. تلخّصه صاحبته بثلاث كلمات: الاثنتَان الأوليان هما عنوان الكتاب نفسه. صحيحٌ انه يُترجم إلى العربية بـ"العائلة الكبرى". لكن المؤلفة كتبته بصيغته الإيطالية (Familia grande). وكانت هذه الصيغة تقليدياً تشير إلى عائلات المافيا الإيطالية. ثم عن الصمت، لا تستخدم كلمة سكوت أو صمت، إنما كلمة "أورميتا"، والمعروفة، أيضا تقليدياً، بأنها الصمت الذي تفرضه المافيات الإيطالية عن جرائمها، في وسطها العائلي و"المهني". تصرّ كاميل: "أريد أن أتخلّص من تلك المافيا التي كانت عائلة كبرى!"، كأنها توضح معنى هذه الكلمات وعلاقتها ببعضها.
تدخل ماكرون، واستنكر "سفاح القربى"، وأخذ مسافة مع أوليفيه دوهامل الذي غازله طويلاً!
يُحدث الكتاب زلزالاً في الأوساط المعنية وغير المعنية. يستقيل أوليفيه دوهامل من رئاسة المؤسسة الجامعية العليا، ومن المجلة التي يديرها والبرنامج الإعلامي الأسبوعي الذي يحلّل فيه السياسة الداخلية .. وبعد أوليفيه دوهامل، يستقيل طاقم من كبار المسؤولين الأكاديميين المتّهمين بالمعرفة والصمت. يتدخل رئيس الجمهورية، إيمانويل ماكرون، ويستنكر "سفاح القربى"، ويأخذ مسافة مع أوليفيه دوهامل الذي غازله طويلاً. وتبادر الحكومة الفرنسية إلى "تعزيز ثلاث رافعات" للكشف عن سفاح القربي في الصفوف الأولى من المدارس الفرنسية. وهذه الرافعات هي "التعقّب، الوقاية، الإبلاغ"، عن أي عنفٍ جنسيّ يتعرّض له الأولاد. ومن ضمن موجة ردود الفعل أيضاً، توقيف فوري لبرنامج أسبوعي، يستضيف الفيلسوف الفرنسي، ألين فيكيلفورت. والسبب أنه أعطى "أسبابا تخفيفية" لجريمة نظيره أوليفيه دوهامل.
والموجة مرشّحة للارتفاع. ترافقها فضائح أخرى، تطاول أسماءً لامعة من عالم الفن والثقافة والإعلام والرياضة، وهي تهَم تتراوح بين التحرّش والاغتصاب والبيدوفيليا (التحرّش بصغار السن). والجريمة التي تكشف عنها كاميل كوشنير تغطي هذه الأوجه. ووسط هذه الضجة، كانت لافتة ردّة فعل برنار كوشنير، والد كاميل وفيكتور، عندما أعلموه بالأمر. غضِب كثيراً، وقرّر الهجوم على أوليفيه دوهامل، فمنعه ولدَاه .. ولكن اسم برنار كوشنير تحديداً هو من بين الأسماء التي وقّعت عام 1977 على بيانٍ يتعاطف مع ثلاثة متحرّشين بأطفال، كانوا يخضعون للمحاكمة، ولعقوبة "قاسية". ومن بين ما يقوله هذا البيان، في دفاعه عن المتّهمين، إن ثمّة تناقضا بين القانون الفرنسي المعتمَد و"الواقع اليومي لمجتمعٍ يميل إلى الاعتراف بحياةٍ جنسيةٍ لدى الأطفال والمراهقين". ويتساءل، دعماً لرأيه هذا: "إذا كان يحقّ لابنة الثالثة عشرة من العمر أن تتناول حبوب منع الحمل، فمن أجل ماذا؟".
في السبعينات، وريثة الستينات، وعقيدة "ممنوع الممنوع!"، أخذت البيديوفيليا عزّها. من دون أن يكون لها هذا الاسم الاتهامي الذي سوف تعيَّر به لاحقاً. الموقّعون على البيان هم من كبار المفكّرين والفلاسفة والروائيين. نعرف منهم جان بول سارتر، سيمون دي بوفوار، رولان بارت، جاك لانغ (وزير الثقافة السابق نفسه). وقد انضم إليهم، بعد أشهر، ميشال فوكو وألان روب غرييه وجاك دريدا، في بيان آخر يطالبون فيه السلطات بإصدار قانون "لا يجرّم العلاقات الجنسية بين الراشدين وبين الأطفال الذين هم دون الخامسة عشرة من العمر". كل هذا في مناخ فني وثقافي وفكري يضجّ بالأفكار الداعمة، عنوانها "الحرية الجنسية الشاملة". طبَعتْ بكلماتها جيلاً بأكمله من المثقفين، أصحاب التأثير والامتيازات على أشكالها. وربما تسرّبت بدفعات متفاوتة إلى المواطنين "البُسطاء".
هذه العودة إلى الوراء مفيدة. منها نفهم أننا نشهد الآن في فرنسا تبدّلاً في العقلية، في "البنية الفوقية" (بالتعريف الماركسي)، خلال فترة قصيرة نسبياً. بين سبعينات القرن الماضي وعشرينات الألفية الحالية أقل من نصف قرن. عاصره القليلون ممن بقوا على قيد الحياة. منهم، ومن أبرزهم برنار كوشنير، والد فيكتور، وقد بلغَ الآن الواحدة والثمانين من العمر.
تبدّلٌ بالعقلية، واهتمام شعبي زائد بالقضايا الخاصة، يعكسان الرغبة المتأصلة لدى الفرنسيين بعدم السكوت عما يدور في رؤوسهم
تبدّلٌ بالعقلية، واهتمام شعبي زائد بالقضايا الخاصة، يعكسان الرغبة المتأصلة لدى الفرنسيين بعدم السكوت عما يدور في رؤوسهم. عكس شعوبٍ أخرى، التي تذهب تلقائياً نحو الكتمان المديد. ولهذا علاقة بالديمقراطية الفرنسية، المعطوفة على خزّان ذهني من التاريخ، يحثّ ورثَته على التمرّد. والتمرّد حتى على نفسه. على ما كان منْزلاً من علوّ منذ نصف قرن. وصار الآن مرفوضاً منهجياً. يتنصّل منه الأحياء من كبار صانعيه، ومنهم والد ضحية هذه الواقعة، الوزير السابق، برنار كوشنير.
معانٍ أخرى لهذا الحدث "الانقلابي" على النفس: قد تكون "قعدة" الوباء خلف هذا الانجراف لترْبة لم تبلغ القرن، لم تجفّ كفاية. فهي، أي القعدة، تفرّغ العقول من ضجيج الاجتماعيات وتعيدها إلى الذاكرة. القديمة بشكل خاص. مربع الطفولة والمراهقة. وذلك مهما بلغ المرء من العمر. أو خصوصا إذا بلغ حدّا معيناً من العمر، أو حدّا ملائماً. مثل كاميل كوشنير، صاحبة الكتاب، وعمرها الآن خمس وأربعون سنة.
وقد تكون الآثار الجانبية لحملة "ميتو"، المنطلقة منذ ثلاث سنوات من أميركا، وقد امتدّت إلى جميع أنحاء العالم. وهدفها فضح عمليات التحرّش والاغتصاب التي تتعرّض لهما النساء. من دون أن تحدّد الفضاءات، بين عام وخاص. وقصة كاميل كوشنير لا تنضوي تحت عنوانها بالتحديد. ولكن يمكن اعتبار البيدوفيليا تتّصل بها عضوياً. والقصد أن حملة "الميتو" أعطت دفعاً غير مباشر لكاميل كوشنير، كي تصدر الكتاب.
وهنا مفارقة تسجَّل. أن النسوية نفسها التي رفدت مدافعي السبعينات عن البيدوفيليا بأسمائها اللامعة، هي التي ترْفد الرافضين لها بأنواع مماثلة من الدعم. الوعي النسوي السابق ساهم معنوياً بتبرئة البيدوفيليا. ولكن الوعي النسوي صار الآن يمدّ الأطفال بالحقّ في الحماية من تلك البيدوفيليا.
يتساوى البشر في الشرّ. والفرق بينهم هو في النجاح بالكشف عن بعضه، ليس في أعدائهم، إنما في أهلهم
معنى آخر تسجّله هذه القصة: أن الانحرافات الجنسية ليست من فعل طبقةٍ بعينها أو ثقافة بعينها. محرومة وتلبي رغباتها كيفما اتفق: بسفاح القربى، البيدوفيليا، كأسرع سبيل. وهذه الصورة تضجّ بها سرديات أفلامٍ ورواياتٍ لا تنْضب. فيما الانحراف الجنسي في حالتنا هو من فعل طبقة أعيانٍ من ثقافة وأكاديمية. مغلقة على نفسها وحافظة لأشرارها، وغير محرومة على الإطلاق، لا من الجنس، ولا من خيرات السلطة الثقافية.
أخيراً: تلك المفارقة الأخرى. عن حملات فرنسية وغربية تتعلق بعالمنا العربي. تلك التي تدعو إلى منع زواج القاصرات العربيات والمسلمات، بصفته فعل بيدوفيليا بامتياز. ونحن معهم بالطبع. مرّة لأنهم ضد البيدوفيليا في ديارنا، ومرّة أخرى لأن الفرنسيين من بينهم ضد البيدوفيليا في ديارهم.
ودرس أخلاقي بامتياز: يتساوى البشر في الشرّ. والفرق بينهم هو في النجاح بالكشف عن بعضه، ليس في أعدائهم، إنما في أهلهم.