فرنسا: فنّ المضيّ قدماً
أي أوروبا ستُفاوض روسيا والصين، في حال استمرّت العلاقات المتذبذبة بين بعض دولها والولايات المتحدة؟ أي أوروبا ستبني جيشاً مستقلاً عن حلف شمال الأطلسي وعن الولايات المتحدة؟ أي أوروبا ستجد مكاناً لها كقطب أساسي في عالم يسوده الأميركيون، ثم الروس والصينيون؟ لم تكن الصفعة التي تلقّتها فرنسا في موضوع الغواصات مع أستراليا سوى تأكيد على عوامل عدة. الأول، عدم قدرة الأوروبيين على القيام بدور ريادي في العالم، الذي كان ملعبها قبل النهضة الصناعية وبعدها في القرون الثلاثة الماضية، بل تحوّلت إلى قارّة تتلقّى الضربات وتتعايش معها. الثاني، فشل أوروبا في إثبات حضورها أمام الأميركيين والسوفييت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، خصوصاً أن استنجادها بواشنطن لإطاحة الاحتلال الألماني النازي لها جعلها أسيرة الديون، واستطراداً تابعة سياسياً للولايات المتحدة. مع العلم أن الانخراط الأميركي في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) لمصلحة الحلفاء شكّل بداية انحدار القيادة الأوروبية للعالم. الثالث، تمحور في فشل أوروبا في ترجمة اتّحادها وتحوّل دولها إلى عملة اليورو، في التغلغل في الأسواق العالمية من موقع قيادي، بل دائماً ما كانت "الطرف الثانوي" في أي سوق، و"الطرف الأول" الذي يتحمّل الخسائر في أي أزمة مالية. الرابع، عجز أوروبا، على الرغم من اتّحادها وقوّة مؤسساتها القاريّة، في نقل هذا الاتحاد إلى شعوبها التي تعاني من أزمات ثقافية متلاحقة، ما يدفعها، في أي لحظة اقتصادية أو صحية سلبية، إلى المطالبة بالخروج من الاتحاد، كما حصل مع إيطاليا في فترة كورونا العام الماضي، ومع اليونان وبولندا وغيرهما سابقاً. وإذا كان الثلاثي المذكور لم يقرن القول بالفعل، إلا أن بريطانيا وضعت حداً لعلاقة دامت نحو 50 عاماً مع بروكسل، مفضّلة التوجّه غرباً، والانغماس أكثر في المعسكر الأنغلوساكسوني.
هذه العوامل، مضافاً إليها عجز أوروبا عن التفرّد بسوق الغاز، واضطرار أكبر دولها، ألمانيا، إلى عقد الاتفاقات مع روسيا في شأن نقل الغاز عبر البلطيق إليها، لم يضرب فقط استقراراً أوروبياً، بل دفع دولةً، مثل أوكرانيا، إلى التفكير بجدوى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مستقبلاً، في ظلّ تقاطع المصالح الألمانية ـ الروسية.
لا تتصرّف أوروبا ككيان موحّد، على الرغم من أن دستور الاتّحاد الأوروبي ينصّ على ذلك، بل على العكس، ففرنسا التي شعرت بالإهانة والطعن بالظهر في موضوع الغواصات تلقّت ضربات مماثلة من سويسرا التي تخلت عن صفقة طائرات عسكرية فرنسية، ومن رومانيا التي أدارت وجهها عن صفقة طرادات بحرية فرنسية. والدنمارك، مثلاً، اصطفت إلى جانب الأميركيين في هذه القضية، على حساب الفرنسيين.
وسط هذا كله، تبدو ألمانيا التي قادتها مستشارتها أنجيلا ميركل في السنوات الـ16 الماضية، تتصدّر الواجهة الأوروبية، وتتمركز في زاوية أساسية في العالم، من دون إبداء طموحات أممية، ولا التقليل من قوة نفوذها الأوروبي، مهدّدة بمرحلة من انعدام الاستقرار، بعد طيّ صفحة ميركل غداً الأحد، في الانتخابات المحلية. يعود ذلك إلى أن خَلفها، أرمين لاشيت، أمضى صيفاً مروّعاً، مساهماً في تراجع شعبية "الاتحاد المسيحي"، المكوّن من حزبي الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي. وهو ما سيدفع برلين إلى الانشغال بمشكلاتها الداخلية التي ربما قد تصل إلى إجراء انتخابات مبكّرة، لأن أحداً حالياً لا يمكنه ملء فراغ ميركل.
وسط هذا كله، أي جيش أوروبي مستقبلي سيتشكّل؟ وما هي أسسه، وكيف يُمكن تمتين وحدته في أي حرب، طالما أن للخصوم المفترضين، ولو كانوا حلفاء حالياً، حلفاء أوروبيين؟ روسيا مثلاً لا تزال صديقةً لدول، مثل المجر وصربيا. الولايات المتحدة حليفة لبولندا وتشيكيا وليتوانيا وإستونيا والدنمارك والنرويج والسويد. قائدتا المعسكر الأوروبي، فرنسا وألمانيا، غير قادرتين على صياغة وحدة قاريّة فعلية. يبقى حل واحد: قبول فرنسا الصفعات والمضيّ قدماً.