فريدا كاهلو وحلم الأجنحة
بالعشق تنبت للروح أجنحةٌ، حينما تكون الروح حرّةً وطليقةً، وكم تمنّت فريدا كاهلو أن تنبت لها أجنحةٌ، وفي الغناء الشعبي الصعيدي يقول المُغنّي، وهو في ظلال واحة أشجاره وأحزانه، "أمانة يا طير أعطيني جناحينك". ويقول بيرترام دي وولغي، كاتب سيرة زوجها دييغو ريفيرا: "الرسم يعيد إلى ذاكرتنا الزمن الذي كان فيه أبواها يلبسانها ثوباً أبيضَ وجناحين كي يجعلاها تأخذ هيئةَ ملاك. الجناحان سبّبا لها تعاسةً كُبرى لأنّها لا تطير"، ولكن فريدا، بهمّة العشق رغم كسور عظام الجسم، استطاعت أن تأخذ من الطيور أجنحتها، ومن العشّاق عطور أرواحهم، وحلّقت في سماوات فنّ المكسيك وأساطيره وألوانه الزاهية وريش طيوره، حتى آخر ظهور لها من فوق سريرها، وكانت تقول عن نفسها: "لماذا أحتاج إلى قدمين، وأنا لديّ جناحان لأطير بهما"، هي الشغوف باللون والأثواب الطويلة الزاهية، التي تطاول الأرض أحياناً، وهي التي اخترعت لنفسها صديقةً متخيَّلةً وهي طفلةٌ، وهي ابنة مصوّر ورسّام هاوٍ، وهو المهاجر الألماني، الذي له أصول يهودية، القادم من هنغاريا.
الفنّ شيطان مُحبّب في العالم يصل شرق البلاد بغربها، وحضارة الشرق بحضارة المايا والآزتيك، وكان زوجها دييغو ريفيرا يقول عنها: "إنّ فريدا شيء من الشيطان"، عاش هذا الشيطان الشعبي الجميل في كنف نظريات أندريه بريتون وقتاً قليلاً في باريس زيارةً، واعتبرها أيضاً سورياليةً، رغم أنّها تقول عن نفسها: "لا أرسم أبداً أحلاماً، بل أرسم واقعي الحقيقي فقط". وجالست سارتر، وأحبّها ليون تروتسكي، الثائر المطرود من جنّة جوزيف ستالين، شهوراً، وأهدى لها بابلو بيكاسو قرطاً صنعه بنفسه، وقال عنها بيكاسو في رسالة لدييغوا زوجها: "لا ديرين، ولا أنا، ولا حتّى أنت، نستطيع أن نرسم رأساً من مثل تلك الرؤوس التي ترسمها فريدا"، وخلّدها بابلو نيرودا بقصيدة حُفِرتْ على شاهدة قبرها، فأيّ سعادة بذلك الشيطان الجميل!
هي طائر جميل حلّق في سماوات المكسيك مجنّحاً رغم كسوره، وصنع الألمُ عظمتَها، بهمّتها هيَ، وبشغفها هيَ، وبمهارتها التلقائية البسيطة الفطرية من دون نظريات أو وصايا من أحد، ومن دون أن ترتكن إلى العجز أو إلى الألم. تقول فريدا: "أنا أرسم حقيقتي، إنّ الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنّني أرسم لأنّني أريد أن أفعل ذلك، وأنا أرسم دوماً ما يخطر ببالي كلّه، من دون أيّ اعتبار". هل كان العشق غايةً، والرسم نتيجةً؟ وهل مهّد العشق طريقَ الفنّ لها، إذ اعتبر بعضهم أنّها موهبة عشق أكثر منها موهبةَ فنّ ورسم، وأنّ حكايتها كانت أكثر جمالاً من فنّها، وأنّ جموح العشق لديها أكثر خطورةً من مُنجَزها الفنّي؟ ... أسئلة بعد سبعين سنة من رحيل فريدا عن العالم في 1954، تحتاج مجهوداً نقدياً مُجرَّداً بعيداً عن التضخيم أو التهويل من منجزها الفنّي.
دائماً، في أوساط المجموعات الفنّية في بلدان العالم كلّها، حالة من الكهانة الفنّية، خاصّة أنّ بيت زوجها دييغو ريفيرا كان قِبلةَ تلك التجمّعات الفنّية والأدبية، وهو الفنّان الكبير بالطبع، فلا بدّ أن تكون حبيبته وزوجته قد نالت شيئاً من تلك القداسة أيضاً، حتّى إنْ زاحمتها في عشقه أختها الأصغر منها مباشرةً، كريستينا، وهل كانت بالفعل كريستينا هي السبب المباشر وراء حكايات عشق فريدا المتنوّعة، نوعاً من الانتقام من ريفييرا لأنّه انتقل إلى أختها، رغم أنّ دييغو ريفيرا كان مُتعدّد العلاقات خارج نطاق الزواج، ولم يكن في حاجة إلى حكاية كريستينا، أم تلك هي ربطة "الكهانة"، وعلاقة الانتقام بالحُبّ كثأر ما؟ ... خاصّة إذا لمسنا مثل تلك الكهانة الفنّية في الاثنين (فريدا ودييغو)، في كثير من الأقوال التي تُؤرّخ لهما: "دييغو أعظم فنّان في العالم، فريدا الكاهنة المُتمرّدة غالباً في كنيسته"، وبالطبع يقصد كنيسةَ الفنّ وحكايةَ محبّتهما.
كيف بطفلة أصابها شلل الأطفال صغيرةً، وألمّ بها حادثٌ بشعٌ، وكانت بنيتها الجسدية في الأصل ضعيفةً، وموضع تندّر من صديقاتها في الصغر رغم جمالها، كسر الحادث عمودها الفقري، ولكنّه لم يكسر فتنتها التي عاشت بها، أرضعتها مُرضِعةٌ هنديةٌ "كانت تغسل ثدييها في كلّ مرّة حين أستعد للرضاعة"، ولكن بفنّها غسلت خطاياها كلّها. وعن والدها تقول: "كان له صديقان فقط، أحدهما رجل عجوز طويل القامة، كان يترك على الدوام قبَّعته على سطح الخزانة الكبيرة، كان أبي والرجل العجوز يقضيان ساعات عدّة وهما يلعبان الشطرنج ويحتسيان القهوة".