فضيلة الكذب في النظام الدولي الجديد
في العنوان التكتيكي للحرب الروسية على أوكرانيا، ترّهات وكذب وإبحار في محاكمة النوايا بمصطلحات فصيحة لا تخفي خواء المعنى: إطاحة "الحكومة النازية" في كييف، وحماية الأوكرانيين الناطقين بالروسية في الشرق من "الإبادة"، وضمان منع تحوّل هذا البلد إلى "قاعدة أميركية" ممثلة بحلف شمال الأطلسي. لا داعي لشرح ما لا يُشرح. أما في العنوان بعيد المدى، فتصبح الكذبة بفخامة الاستراتيجيا: تغيير النظام الدولي وكسر الأحادية الأميركية وافتتاح زمن التعددية القطبية. والكذب في السياسة غير محصور في أي من أطراف ذلك المحور الطامح بإدخالنا جنة التعددية القطبية لا سمح الله. لا هو حكر على روسيا ولا الصين ولا إيران، لكنه عند هؤلاء، يكتسب نكهة خاصة. كارهو النظام الدولي الحالي يقولون إنهم يريدون إسقاطه لكسر الأحادية الأميركية وإنهاء حروبها. العودة إلى مسوغات تلك الحروب منذ انتهاء عصر الثنائية القطبية قد تتيح مقارنات بسيطة في إطار رصد بارومتر الكذب في حروب المحورين. في الذاكرة أربع حروب أميركية ــ أطلسية: يوغوسلافيا (1998)، أفغانستان (2001)، العراق (2003)، ليبيا (2011). في الحروب الأربع، أكذوبة واحدة كبيرة: العراق يمتلك أسلحة دمار شامل. استنفر الثنائي الأميركي البريطاني كل أجهزته وإمكانياته وإعلامه (نيويورك تايمز خصوصاً) لكي يبتلع العالم تلك الأكذوبة، وهو ما لم يحصل. دراسات وتحقيقات وتقارير وصداع في الرأس لتكون الأكذوبة "مشغولة"، دسمة، فيها حرفية، يمكن تصديقها، تليق بأن تكون مبرراً مقنعاً لشن حرب العراق. الحرب الأميركية الفاشلة في العراق كانت بحجم أكذوبة كولن باول. أما حروب يوغوسلافيا (1998) وأفغانستان (2001) وليبيا (2011)، فقد حصلت بلا كذب. لمَ الكذب أصلاً؟ ألا يكفي وجود نماذج من صنف سلوبودان ميلوزيفيتش وتحالف بن لادن مع حركة طالبان، ومعمر القذافي لتبريرها؟ الأكذوبة الأميركية إياها، ما الذي حلّ بها؟ لجان تحقيق واعتزال للعمل السياسي واستقالات ومحاكمات ورؤوس كبيرة تطير ومحاسبة ولعنة لم تفارق صاحبها كولن باول حتى وفاته قبل أشهر. محاسبة تليق بما يُسمّى دولة فيها حقوق وديمقراطية وقانون، تتسبّب بالكوارث وترتكب الجرائم ولكن ثمّة من يحاسب في النهاية، وإن لم يعنِ ذلك تصحيح الخطأ وجبر أضراره.
هذا عن الأكذوبة الكبرى لعصر الأحادية القطبية الأميركية ـ الأطلسية. ماذا عن حروب المحور الذي ييشر بقرب تقاسمه النفوذ في العالم مع الغرب؟ ذاك المحور الروسي ــ الصيني ــ الإيراني حروبه تحصل بكذب ينساب كالنسيم، هكذا بلا تشكيك في الرواية الرسمية أو سؤال أو استفسار، بلا تدقيق من رأي عام ولا إعلام يفنّد ولا لجان تحاسب وتكشف الحقيقة وكيف اختُرعت الأكذوبة. الحرب على أوكرانيا غير موجودة أصلاً، فمن يستخدم مصطلح الحرب في روسيا معرض للسجن 15 عاماً، فهي "عملية عسكرية خاصة". اسم فني لائق. ثم لماذا تصدّرت إيران بمليشياتها حفلة الدم في سورية؟ لحماية مقامات دينية. فلتتغيّر السردية: للحفاظ على وحدة الأراضي السورية. لا بد من قصة أكثر تماسكاً وجاذبية: لمحاربة الإرهاب. سؤال آخر عن حروب "المحور": لماذا انضمت روسيا إلى قافلة قتلة الشعب السوري في سبتمبر/ أيلول 2015؟ تلبيةً لطلب تلقته رسمياً من الجمهورية العربية السورية. هكذا ببساطة وانتهى الأمر. فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف والآخرون لا يخجلون. ينظرون بالكاميرا ولا يرف لهم جفن وهم يتقيّأون أكاذيبهم. ظل المذكوران يكرّران لأشهر كذباً بأن بلدهما لن يغزو أوكرانيا، وبقيا يجترّان أنها مجرد بروباغاندا أميركية. أما عند الطرف الآخر المسمى غرباً، فتُمسح الأرض بالمسؤولين داخل بلدانهم أولاً عندما يقترفون أكذوبة من هذا الحجم. في المقابل، المواطنون المحتجون على قرار الحرب في بلدان "المحور"، لهم السجن على الأقل، إن لم يكن القتل.
ضد حروب النظام الدولي المُراد تغييره، تمتلئ شوارع واشنطن ولندن وباريس بمئات آلاف المتظاهرين ضد حكوماتهم. هناك إعلام حر ووصول إلى المعلومة يتيح معرفة ما إذا كان ما تدعيه هذه العواصم كذباً أو حقيقة. أما في النظام الموعود بتعدديته القطبية مثلما تراه الصين وروسيا وإيران، فلا وجود للكذب، هناك صدق الخرافة والتخلف والقتل والتعذيب والقمع.
يحيا ذلك الكذب، واللعنة على هذا الصدق.