فلسطينيو 48 ووظيفيّة مليشيات الإرهاب الصهيوني
سارعت الشرطة الإسرائيلية إلى التنصّل الرسمي من مبادرة نشطاء حزب عوتسما يهوديت (القوة اليهودية)، بقيادة سموطريش وبن غفير، لتنظيم مليشيات أو كتائب كما يطلقون عليها، وذلك في مدينة بات يام المحاذية ليافا والمقامة على أراضيها وأراضي القرى الفلسطينية المهجّرة في تلك المنطقة، بينما امتنع الحزب المذكور وناشطوه من التعقيب على موقف الشرطة، وفي ذلك علامة رضى لدى الحزب الصاعد الذي بات يجد له مكاناً متصدّراً في المشهد السياسي الإسرائيلي، مستنداً إلى النمط الشعبوي، وإلى الخطاب الدموي الفاشي الصهيوني تجاه الفلسطينيين، وحصرياً تجاه فلسطينيي 48.
سيكون من الخطأ النظر إلى هذه المليشيات من المنظار الضيق للانتخابات الإسرائيلية، بل هي تجديد لثقافة متجذّرة في المشروع الصهيوني ودولته، تقوم على الدمج والتكامل ما بين الجانبين الرسمي والشعبوي، وذلك لتنفيذ ما يريدون من انتهاكات، وللتنصّل من أية مسؤوليات. سبق هذا النمط عام 1948، حين كانت النكبة والطرد والتهجير والنهب من أبرز الأمثلة على هذا النهج الذي وقفت وراءه استراتيجيا عليا للمنظومة المهيمنة بكاملها في منع عودة اللاجئين وطرد من بقوا في وطنهم، فحين أخفقت قوات الهاغاناه وكتائب البالماخ في مهامها أطلقت العنان للجمهور الواسع وللجنود الذين سرعان ما تحوّلوا إلى عصابات تعمل في إطار الفلتان المرغوب سياسياً في التطهير العرقي والقتل والنهب والاغتصاب، كي يقطعوا رغبة أي فلسطيني في العودة إلى بيته وممتلكاته، ودونما تحمّل مسؤولية رسمية عن النهب، بينما وفّر لهم بن غوريون الحماية السياسية، ومنحهم الجهاز القضائي البراءة الجوهرية.
ما يجمع بين المليشيات التي تبدو محليّة في المدن الساحلية والمختلطة "تأسيس وحدة مقاتلين مناطقية تؤدّي إلى مضاعفة قدرات قوات الأمن"، بينما أكّد المرشّح في قائمة حزب عوتمسا يهوديت للكنيست، ألموغ كوهين، وهو مؤسّس كتيبة بارئيل التي أُقيمت في النقب على اسم الضابط الذي قنصه الشبان الغزيون في صيف 2021 وهو متخندق وراء الجدار الاحتلالي، بأنه يرى في التشكُّل الجديد في مدينة بات يام استمراراً لما حدث في النقب، مؤكّداً أنه يشيد بالمبادرة في بات يام ويعرف شخوصها، وعبّر عن أمله في "تعميم الظاهرة في كل البلاد، وكلما ازدادت المبادرات لتشكيل كتائب سيكون أفضل". وقال إن الوضع بعد إنهاء وزير الأمن الداخلي "الخطير على أمن الدولة"، عومر بارليف، ستحتضن الشرطة هذه المبادرات. هذا ويعتبر المبادرون أن وجود العمّال من الضفة الغربية أو من بين فلسطينيي 48 يشكّل مبعثاً لعدم الاطمئنان ولغياب الأمان. "نشعر طوال الوقت بأننا مهدَّدون.. وحين أمشي على الشاطئ أشعر بالتهديد". وبناء عليه، سيكون المقاتلون مسلّحين ويقومون بدورياتهم ويساعدون بما أمكن. وفي نظرة إلى العقود الثلاثة الماضية، نجد أن هذه المليشيات عصابات منظمة من التيار الصهيوني - الديني، وهي استمرار للأنوية التوراتية التي بادر إليها في حينه أرئيل شارون لتجمع بين تعلّم التوراة والخدمة العسكرية في المدن الساحلية بمحاذاة الأحياء العربية الفلسطينية، وهي استمرار أيضاً للعصابات الدموية التي هاجمت الوجود العربي في هذه المدن، إبّان هبّة الكرامة في مايو/ أيار 2021.
تعامل الشرطة الإسرائيلية مع موضوع مليشيا بات يام دليل إضافي على تراجع مؤسّسات الدولة أمام المدّ الفاشي
لافتٌ أن هذه المليشيات ليست مبادرات منفردة لا علاقة بينها، بل هنالك مسعى إلى إقامة شبكة متكاملة من المليشيات المسلحة، ومعوّلة في تسويغاتها وتبريراتها بأن "ضعف الدولة" "وضعف الشرطة والمنظومة بكاملها هو المبرّر. بينما نرى أنه مع علوّ شأن هذا الحزب الدموي الفاشي تتعزّز هذه العصابات المنظمة رسمياً ويتّسع نطاق عملها، وتبنى شبكة العلاقات الرابطة بين ناشطيها والمبادرين لها، كما يتضح ارتباطها العقائدي والسياسي والتنظيمي بالحزب المذكور، والذي وضع هدفاً له، كما صرّح سموطريش، إحداث انقلاب في بنية الجهاز القضائي، وتقليص صلاحياته في التدخل في شؤون الحكم والشرطة والأجهزة الأمنية وتقليص صلاحيات المستشار القانوني للحكومة، وذلك كله ضمن السعي إلى تبوُّؤ مناصب عليا في الحكومة المقبلة، في حال شكلها نتنياهو، وكانوا جزءاً منها كما يطمحون. وفي حال لم يحصل ذلك، فإنهم يشكلون الحزب الثالث في إسرائيل، وقوة تأثير كبرى على السياسات، كما أن معظم مؤيديهم من جيل الشباب، وانضمّ قطاع واسع منهم للحزب من جمهور الأحزاب الدينية الحريدية الآخذة بالتصهين، وأوساط ملموسة من مختلف فئات المجتمع الإسرائيلي، ويحظون بترويج إعلامي غير مسبوق، ومن مختلف وسائل الإعلام المركزية، فضلاً عن وسائل الإعلام التابعة لهم. تهدف مثل هذه العقيدة التي يتبنّونها إلى الوصول إلى الحكم مستقبلاً وليس بعيداً وليس مستبعداً أيضاً، إلى درجة مقاربة نائب رئيس الموساد السابق ورئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، ران بن براك، بين شعبية هذا الحزب والحزب النازي في ألمانيا ثلاثينيات القرن الماضي.
تعامل الشرطة مع موضوع مليشيا بات يام دليل إضافي على تراجع مؤسّسات الدولة أمام هذا المدّ الفاشي الذي ترعرع في ظلّها وبين ثناياها، وما صدر عن الشرطة موقف إجرائي غير جوهري مفاده بأن هذه المبادرات تعتمد على "تبرّعات لا تندرج ضمن اعتبارات قانون خدمات الدولة". بينما ترحب الشرطة بالمواطنين الذين يرغبون بالتطوّع في إطار أنظمتها وإجراءاتها، ولو ترجمنا هذا الادّعاء إلى لغة الواقع فإن أنظمة الشرطة وإجراءاتها لا تقلّ دموية وقمعاً عن المليشيات المذكورة التي لم تقم بأي اعتداء على الجمهور العربي الفلسطيني في مدن الساحل في عكا وحيفا واللد ويافا، إلا وكانت بمرافقة الشرطة وأمام ناظرها، بما في ذلك جريمة اللينش التي ارتكبتها مليشيات شعبية صهيونية في مدينة بات يام ضد فلسطينيين خلال هبّة الكرامة في مايو/ أيار 2021، ولم تحرك الشرطة ساكناً كما تتقن.
واللافت أيضاً في موقف الشرطة الإسرائيلية أنها لم تعترض على هذه المبادرات وإقامة مليشيات مسلحة ومبنية على أسس التنظيم العسكري الذي يشمل ثلاثة مستويات: قوة التدخّل، وهي فرق النخبة من القناصة، والذين يخضعون لتدريبات خاصة في "محاربة الإرهاب وتدريبات نوعيّة خاصة"، وفرق المشاة والدوريات في الأحياء، والفرق التقنية غير القتالية، بينما دورها في إدارة كل المجموعات وتفعيلها. أي أن المنظومة الإسرائيلية التنفيذية والسياسية والقضائية توفر الأرضية وبناء البنية لشبكة من المليشيات الصهيونية القائمة على العداء لكل ما هو فلسطيني وعلى التطهير العرقي والاعتداءات الدموية.
ظاهرة المليشيات تتحوّل وبتسارع إلى ظاهرة مقبولة ومُجاهَر بها، وتستقطب أوساطاً واسعة من الإسرائيليين
ليست المسألة هنا طبيعة الإجراءات وقانونيتها، بل جوهر الدولة والنخبة المتشكّلة من أقصى اليمين الفاشي الدموي الاستيطاني، وهي فعلاً فيها أوجه تشابه مع سيطرة الحزب النازي في ألمانيا، سواء من حيث الأيديولوجيا أم المسعى إلى القضاء على مؤسسات الدولة أم الشعبوية أم تطويع البنية القضائية والإعلامية لصالح عقيدتها ومشروعها أم في السعي إلى تدمير المؤسسة الدينية اليهودية الرسمية وتفريغها من جمهور أتباعها. وهي ترى بمرجعيتها في الجمع ما بين البعد الديني التوراتي والتلمودي وفكرة الخلاص ومحورية "جبل الهيكل" فيها وبين البعد الاستعماري الذي تسوّغه باسم الدين.
ويبقى السؤال ماذا يعني هذا التحوّل فلسطينياً؛ فإنَّ فلسطينيي 48 هم المستهدفون المباشرون من هذه المليشيات، كما أنّ مجمل وجودهم في مدن الساحل الفلسطيني التاريخية والنقب مستهدف، ويلتقي مع أهداف الدولة، وحصرياً مع مشاريع التطهير العرقي في النقب. بينما الحقيقة الساطعة أن عنف الدولة وترهيبها أقوى بما لا يُقاس من قدرات المليشيات الترهيبية، إلا أن ما يزيدها خطورة أن الدولة تنظر إليها وظيفياً ومعنية بها. ويعتقد كاتب هذه المقالة إن فلسطينيي 48 سيواجهون هذه المليشيات التي تستهدف وجودهم، إلا أن هذا لا يقلّل من مخاطرها، وبالذات لأنها تتحوّل وبتسارع إلى ظاهرة مقبولة ومُجاهَر بها، وتستقطب أوساطاً واسعة من الإسرائيليين، كما أن تمثيلها السياسي على مستوى الكنيست والحكم يتصاعد بشكل كبير وسريع، ثمّ أن ما تأتي به هو عنصر المفاجأة وكونها غير متوقّعة، إذ لا تعمل حسب أنظمةٍ معروفة، بل تشكّل انفلاتاً إرهابياً دموياً. إنه تحدٍّ بات مباشراً في حياة فلسطينيي 48.