فلسفة الاشتياق في مفهوم الوطنية
اللغة والزمان توأمان، ولولا أننا، نحن السوريين، في هذا الزمان، لما كان من المنطقي أن نجمع كلمتي "اشتياق" و"وطنية" في جملةٍ واحدة، إلا وكانت جملةً غير مُتَّسِقة. ولكن الزمانَ يتلاعب بالمَنطق، وبالمُمكن، ويَظل العقلُ ابنًا بارًّا له. ولهذا الزمان الذي نعيش خصائصُه، وله معطياته الجديدة، وله رسائله الكثيرة والمُكثَّفة. ومن أهم ما يميزه، بالنسبة للسوري، أنه زمانٌ يحياه الأخيرُ من دون وطن؛ فإنه، إن لم يكن "شبّيحًا"، فهو يسعى حالمًا لاستعادة وطنه من جديد وتحريره من الهمج مرةً، ومرةً أخرى للبحث عن وطنٍ جديد. وفي سعيه هذا، وفي سعيه ذاك، يموت ويحيا مجازًا، أو يحيا ويموت مجازًا؛ وفي الطريقين كليهما مزيجٌ من موتٍ وحياة، وفي عمق كلٍ منهما محاولةٌ للهجرة: الأولى إلى حلمٍ بالإنسانية في الوطن، والثانية إلى الإنسانية التي خلف البحر؛ فنحن السوريين كلنا مهاجرون، ومن لم يصِر مُهاجرًا صار مُقاتلًا.. لأننا نهاجر هجرتين، واحدة في الوطن لتحريره، وأخرى إلى مكانٍ حر يصلح أن يكون وطنًا جديدًا.
ما الذي ننهله من الوطن، لكي نكون ويكون؟ أو ما هو ماء الوطن الذي نشتاق إليه، ويشتاق إلينا الوطن إذا أعرضنا عنه؟ وما هي الحميمية الوطنية؟
فما هو الوطن؟ وما علاقة الشوق بالوطن والسياسة؟ لنقل مبدئيًا إن الوطنَ منهلٌ ضروريٌ للإنسان كضرورة الماء للخيل. أي أن ضرورته وظيفيةٌ، ما دام موجودًا، ووجوديةٌ ما دام مسلوبًا، أو جافًا غيرَ صالحٍ. وقولٌ آخر يكتمل به هذا القول المبدئي في الوطن، وهو: لا يكون الوطنُ منهلًا، ما لم ينهل منه جمعٌ من الناس؛ فالمَنهل يأخذ صفته من العطاء، والعطاء لا يعيش وحيدًا، بل لا يكون إلا بالتزامن مع الأخذ، ومن دونه يصير نيات طيبة، لا محل لها في الواقع؛ فالوحدة بين البشر وأوطانهم كالوحدة بين الخيل والمناهل: هي مرتعٌ خصيب لكينونة كلٍ منهما، ومن ثم هي حرية كلٍ منها ورسالة وجوده. ولا يتم الاستقلال الذاتي (استقلال الإنسان، واستقلال الأوطان) إلا بهذه الوحدة، بوصفها تكاملٌ بين العطاء والأخذ؛ ولنتقدّم أكثر في تحديد ماهية هذا النوع من الوحدة الوطنية، نتوقف قليلًا عند صورةٍ فلسفيةٍ إبداعيةٍ نظمها أبو العلاء المعرّي. "إذا اشتاقت الخيلُ المناهلَ أعرضت/ عن الماء فاشتاقت إليها المَناهلُ".
يضعنا أبو العلاء الجميل في مساحةٍ مفهومية أخرى، هي "الشوق"؛ فالخيل إذا اشتاقت إلى المناهل أعرضت عن الماء، وإذا أعرضت الخيل عن الماء (عن الوِرد) ستشتاق إليها المناهل، فهي مناهلٌ لأن خيلًا تنهل منها. ومن دون هذا "الأخذ"، تفقد اسمها الذي تستحقه بفعل العطاء. وشوق كلٍ منهما إلى الآخر هو شوقٌ إلى ذاته أيضًا، وإلى أن يمارسَ فعلًا يستمد منه وجوده. فهو شوقٌ إلى الذات، ولكن التعبير عنه يتم بشوقٍ إلى الآخر، أو يُترجَم حبُّ الذاتِ والشوقُ إليها بحبِ الآخرِ والشوقِ إليه. هذا الشوق هو التعبير الأمثل عن التكامل الذي يؤدّي إلى الاستقلال، وهو نوعٌ من الحب أيضًا.. هذه هي علاقة البشر بالأوطان: تكاملٌ بالاستقلال وشوقٌ كشوقِ الخيل إلى المناهل.
تستند فكرة الوطن الحميمي إلى فكرة الحرية، وتستند فكرة الحرية إلى الاختلاف
لنتمعّن بهذه الصورة أكثر: يزدادُ الشوقُ إلى الذي يكون بعيدًا عنا، فتشتاقُ الخيلُ إلى المنهل عندما لا تُدرِكه، أي هي بشوقها له تشتاقُ إلى ما فيه، وإلى الذي يُعطيه، تَشتاق إلى فِعلها المدموج بكينونتها: وهو أن تنهل منه.. هي، بعبارة دقيقةٍ، تشتاق إلى الحميمي الذي بينهما. وما أن تشتاق إليه، حتى يدرك هو الآخر أنه لن يكون من دون أن يعطيها، فيشتاق إلى ذاته شوقًا إليها، لأنها هي التي تجعل منه شيئًا موجودًا، أو نقول إنها تُصيّرهُ كينونة.
هكذا هو هذا الزمان السوري الآن، هو زمانُ الاشتياق، وفيه لن تكون سورية إلا بوجود هذا النوع من الاشتياق: شوقٌ إلى ذواتنا التي لا نجدها إلا بها، شوقٌ وجودي لأجل الحياة، وليس غراميًا لأجل الصبابة. هو اشتياقنا إلى الحميمية الوطنية. ولنسأل أنفسنا إذًا: إذا كانت الخيل تنهل الماءَ من المناهلِ، ومن هذا النَهل تنبثق كينونيةُ كليهما؛ فما الذي ننهله من الوطن، لكي نكون ويكون؟ أو ما هو ماء الوطن الذي نشتاق إليه، ويشتاق إلينا الوطن إذا أعرضنا عنه؟ وما هي الحميمية الوطنية؟
بالاختلاف تكتمل ماهية الوطن بوصفه وطناً، وبه يكتمل تفتح الإنسان بوصفه إنساناً
تستند فكرة الوطن الحميمي إلى فكرة الحرية، وتستند الأخيرة إلى الاختلاف، فالحميمية الوطنية هي الوسط (المابين)، حيث يقيم الحضوران: حضور البشر، وحضور الوطن، أحدهما من أجل الآخر ومن خلاله، ولا ينصهران انصهارًا من شأنه أن يضيع فيه كل شيء، بل يشكلان وحدةً (حيث يمكن للحميمي أن يكون). وتظهر حميمية الاقتران في هذا المِفصَل: مِفصَل المابين، أي في الاختلاف. وللاختلاف هنا المعنى الأعظم والأهم، لأنه مادة الوسط الذي، نحوه ومن خلاله، يكون الوطن والبشر حالةً واحدة. ولذلك، الاختلاف هو ماء الوطن الذي يشتاق أن نشربه. وبالاختلاف تكتمل ماهية الوطن بوصفه وطنًا، وبه يكتمل تفتح الإنسان بوصفه إنسانا، وبالاختلاف يتمفصل البشر بالوطن. هكذا لم يعد الاختلاف تمييزًا بين موضوعات مختلفة كما نقوّمها في تصوراتنا، أو تمييزًا بين كردي وعربي، أو إسلامي وعلماني؛ ولم يعد سببًا للكراهية كما نراه اليوم، بل هو مادة الإنسان والوطن والجماعة. هو الذي يجعل الأفراد والجماعات والأوطان تكون (بما للكينونة من وجودٍ، وبما فيها من معانٍ للوجود). وتتعدى مقولةُ الاختلاف مقولةَ التمايز، لأنها بعدٌ مهم من أبعاد الوطن والجماعة على حدٍ سواء.
نعود إلى المعرّي الجميل، واستنادًا إلى تفكيره الرائع في البيت السابق، يمكن أن نقول: إذا اشتاقت الناس إلى الأوطان، أعرضوا عن تدبير الاختلاف، فتشتاق إليهم الأوطان .. ولك عزيزي القارئ، إن شئت، أن تُكمل هذا النسق في التفكير، ولكن كن حذرًا؛ فالمعرّي ما إن بدأ هذا النمط من التفكير حتى دخل في خانة التكفير!