فوارق بين لقاءَي بالي وأنقرة
لا غرابة في أن تكون أميركا هي التي طلبت لجو بايدن موعداً من الرئيس الصيني شي جين بينغ. ولا مفاجأة أن تكون هي أيضاً التي بادرت إلى اقتراح عقد اجتماع بين مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وليام بيرنز ونظيره الروسي سيرغي ناريشكين في أنقرة. الحال أن جو بايدن أراد أن يستهّل سريعاً ترجمة انتصار حزبه النسبي في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس. والمسرح المفضل هو حيث للرئيس الأميركي أهم الصلاحيات دستورياً، أي خارج أميركا. وتحقيق الحزب الأزرق فوزاً في مجلس الشيوخ، وحصده عدداً كبيراً من النواب في المجلس التشريعي الآخر، قد يمهّد له الطريق لنصف ولاية ثانية أكثر هدوءاً من النصف الأول، بعين ثاقبة على انتخابات الرئاسة (2024). لقد أوفى بايدن بوعود انتخابية كثيرة في الداخل الأميركي، تتعلق بالضرائب والسياسات الاجتماعية والاقتصادية والصحية والتحررية والمنحازة للأقليات وللنساء، بينما خسر هو وحزبه يومياً من شعبيتهما. الجواب يكمن في حرب روسيا على أوكرانيا، وأزمة أسعار الطاقة والغذاء والأسمدة الناتجة منها، وقد ضاعفت معدلات البطالة والتضخم ولامست الركود في أميركا (وفي غيرها) بما لم تتمكن من فعله كارثة كورونا والأزمة المالية العالمية (2008) حتى. جو بايدن وحزبه بحاجة لهدنة تتيح التقاط الأنفاس في الداخل الأميركي، وتفادي مواجهة مع الصين قد تجعل من آثار غزو روسيا أوكرانيا مجرد تمرين بسيط على الكارثة الكبرى. وما خرج من اجتماع الساعات الثلاث في بالي (إندونيسيا)، وهو الأول وجهاً لوجه بين بايدن وشي، قد يؤمّن للطرفين حداً أدنى مما يريده الرجلان الآتيان من انتصارين: بايدن في مجلس الشيوخ، وشي في تكريس نفسه ملكاً حتى الممات على الصين وحزبها الحاكم.
الاختلاف في نوعية المحادثات بين أميركا وكل من الصين وروسيا أول من أمس الاثنين لا يحتاج إلى جهود خارقة. مع الصين لقاء رئاسي. محادثات استراتيجية فيها ما يتعلق بروسيا وإيران وكوريا الشمالية، ومحاولة أميركية جدية للحيلولة دون حدوث مزيد من التقارب بين بكين وموسكو. فيها بحث معمّق عن تهدئة عمودها بالنسبة إلى الصين يبقي تايوان حيث تقترح أميركا تثبيت ستاتيكو مقبولاً: لا خطوات أميركية لتشجيع تايوان على الانفصال عن الصين، وفي المقابل لا تهور صينياً عسكرياً ضد الجزيرة. في المحادثات بين أميركا والصين الكثير من الاقتصاد وتنظيم العلاقات التجارية المختلّة. فيها اعتراف من الطرفين بأنهما لا يتطايقان، لكن لا بد لهما من التهدئة في عالم لا يحتمل حرباً إضافية. فيها كلام صيني عن أن العالم "كبير بما يكفي" لازدهار كل من أميركا والصين (أي تقاسم العالم في ما بينهما)، ووعد أميركي بمواصلة التنافس من دون أن يتحول ذلك إلى حرب باردة جديدة. فيها انفتاح للقيام بتسويات. فيها تهدئة صينية من نوع أن "لا نية لدى بكين لتحدي واشنطن"، وفيها مصالح مشتركة كثيرة بحاجة لمتابعة من قبل المسؤولين في البلدين، في التغير المناخي والحفاظ على الاستقرار المالي والصحي والغذائي العالمي، وهو ما ينوي المباشرة في فعله وزير الخارجية الأميركية أنطوني بلينكن الشهر المقبل في بكين.
هذا ما كان في إندونيسيا. أما في أنقرة، حيث التقى المخابراتي ويليام بيرنز المخابراتي الآخر سيرغي ناريشكين، فكان الجو مختلفاً جذرياً. بالنسبة إلى أميركا، هدفان حصراً من اللقاء: إيصال رسالة أميركية من عواقب استخدام روسيا أسلحة نووية في أوكرانيا، والتفاوض بشأن الإفراج عن مواطنين أميركيين معتقلين في روسيا. لقاء أمني لا كلام استراتيجياً فيه تُصدر وزارة الخزانة الأميركية خلال انعقاده عقوبات على 14 فرداً روسياً و28 كياناً. لكن حتى مع روسيا، ترغب إدارة بايدن بسنتين أكثر هدوءاً من اللتين مضتا لعلّ ذلك يخفّف من حدة الأزمة الاقتصادية العالمية على الناخب الأميركي أولاً (وذلك من سمات الديمقراطية لناحية همّ الحاكم في إرضاء مواطنيه).
أما أعداء أميركا ممن قرأوا طلب اللقاءين من قبل واشنطن على أنه دليل إضافي على التراجع الأميركي في العالم، فهم من الصنف الذي تدعو أميركا إلى ربها صبحاً ومساءً لكي يتكاثروا.