فوضى بين الجنسين وبداية تشبّه الرجال بالنساء
من الأول، كانت ثورة النساء ذات وجهة واحدة: تقليد الرجال. منذ بداية القرن الماضي، انطلقت أولى الشرارات، بتنظيم حملات ومنشورات من أجل إعطاء الأميركيات والبريطانيات الحق بالتصويت لنواب الأمة، مثلما هو حق الرجال. وبعد نَيل هذا الحق، كرّت السُّبْحة. مهما تفاوتت الإنجازات واختلفت البلدان، كان التشبّه بالرجال والنضال من أجل الاستيلاء على مجالاتهم هو الغرض. من لِبس البنطلون، الذي اخترعه إيف سان لوران، مصمم الأزياء الفرنسي، من أجل "إراحة" حركة النساء في الخروج من البيت... إلى إدخال أسماء نساء في التاريخ، كنَّ أول من استطعن اقتحام قلعة الرجال، فكانت أول طبيبة، أول مهندسة، أول مخرجة... واللائحة لا تنتهي مع أولى النائبات، أو الوزيرات، أو رئيسات الدول.
وكان يرعى هذه الحركة الصاعدة تنظير عن تقسيم العمل المُستنكر، الذي خصّص الداخل للنساء، حيث الأمومة والعمل المنزلي وحسب، ومنحَ الخارج للرجال، حيث يحكمون، يصنعون، يخوضون الحروب، يبْنون الجسور، يبرعون في الفنون والعلوم والاختراعات... ونشأت أجيال من النساء على احتقار هاتين المهمتين "الداخليتَين"، وخصوصاً الأمومة التي نالت قسطاً وافراً من الإصابات في هذه المعركة. واليوم تقرأ أدبيات عن تلك الحقبة، عن ندم على أمومةٍ لم تعشها صاحباتها بالسعادة اللازمة، أو العكس، من اعترافاتٍ عن أمومةٍ ضحّت بنفسها، بمستقبلها المهني، أو بشبابها...
ومن مفارقات تلك الحقبة، التي ستكون لها آثار لاحقة، أنّ هذه الأدبيات كانت تنْبذ النظام الاجتماعي الذي أقام ذاك التقسيم المجْحف للعمل بين النساء والرجال، وأحالهم على الدونية وانعدام الحرية ونقْصان الذات. تصف تاريخ هذا الظلم وتحيله على البطريركية التي تعطي للذكور حقوقاً للرجال على حيوات النساء، تتفوّق أحياناً على قساوة القدر. تاريخٌ مظلمٌ، إذاً، ذكوره ظالمون، قتلة، مستغلون... إلخ، ومنذ آلاف السنين. لكن، في المقابل، تطالب هذه الأدبيات وتناضل من أجل أن تقوم النساء بأدوار أولئك الرجال ويتشبَّهن بهم. أي إنّ النسوية غرفت في نضالها من جيب الرجال الذين أحالوا النساء على المراتب الدنيا.
مرّت عقود على هذه المرحلة، ونحن الآن في حقبةٍ لا تشبه بدايات النسوية، فالذي حصل خلال السنوات السابقة أنّ الرجال والنساء تواجهوا، بنِسَب متفاوتة، كلٌّ حسب بلده، أو حسب فرديته. من دون أن تفقد هذه المعركة، ولا لحظة واحدة، حيويتها البالغة، وعنفها الشديد أحياناً.
الكلام النسوي، التي كانت الأبدان ترتعش لسماعه، صار في متناول أيّ خطاب
المحصلة العامة اليوم حالة من الفوضى العارمة: وجهات متضاربة، متداخلة، لو فرزناها، أتت على الصورة التقريبية الآتية:
أولاً، الكلام النسوي، التي كانت الأبدان ترتعش لسماعه، صار في متناول أيّ خطاب، من جملة ما يُعتبر صواباً سياسياً (بوليتكْلي كوركْت). كلّ مرشّح يريد أن يربح يتكلم عن حقوق المرأة، كلّ إعلامي، أو صاحب مشروع... على مستوى اللسان، باتَت لـ"حقوق المرأة" ركيزة كلامية، صادقة أو ديماغوجية. ترافقه وصْمة "الذكورية" التي باتت على أي لسان، في الطالع والنازل. يليه مطلب "الكوتا النسائية"، في هذه أو تلك من المؤسّسات الحاكمة، برلمان، وزارة، إدارة عامة، إلخ.
ثم حملة "أنا أيضاً" (مي تو) المنطلقة منذ ست سنوات، والتي تلاحق ألواناً من الجرائم الجنسية، من التحرّش إلى الاغتصاب. وما خرج من محاكمات وقضايا وكتب ومقالات وفضائح على الشاشة، كلها تكشف عن جريمة جنسية، وبزخم ومبالغة، يصلان أحياناً إلى حدّ "البوح المؤلم" بلَمْسة على فخذ الضحية منذ عشرين، وأحياناً ثلاثين عاماً.
يرافق حملة "أنا أيضاً" ازدهار الدراسات الجندرية، الغاطسة في زوايا اضطهاد النساء راهناً وماضياً. وتحاول بعض المنظِّرات لهذه الدراسات التعمّق في دراسة "تقاطع" النسوية والأقليات العرقية والجنسية، لتصِف اضطهاداً مشتركاً بين صاحبات الهويات الثلاث. وتكسب النسوية في مثل هذه الحالة "حلفاء" في معركتها التي تعتقد أنّها تحتاج إلى تصعيد، وأنّ كلّ المطالب لم تتحقق بعد.
في المقابل، يدور قتل النساء، الزوجات، الخطيبات، الشريكات، العاشقات، الطليقات .. على مدار الأرض، وبمختلف الأشكال، ودوافعها متشابهة .. لم تكن الضحية ترغب في استمرار العلاقة مع قاتلها. تريد طلاقاً، انفصالاً، أو فرط عقد أو علاقة. وفي بعض الحالات، تكون الضحية قد نالت الطلاق، لكنّ القاتل يريد أن ينتقم من نجاحها بالانفصال عنه، من مجرّد طلبها بالانفصال. حتى في السينما العربية، لم يعد يتكرّر مشهد الزوج الذي يرمي على زوجته: "أنت طالِق" وهي جاثمة على الأرض، تبكي وتترجّاه بأن يعدل عن قراره الظالم.
عشرات من الجمعيات، ومن اتحادات الجمعيات، كلها رجالية، تعالج قضايا الأبوة، تدعمها بالاستشارات، تنظم من أجلها المطالبات و"اللوبييغ"
وطبعاً، في ربوعنا، حيث الشريعة تحكم حيوات النساء من المهد إلى اللحد، زواج وأولاد وإرث وطلاق وحضانة وموت... يقوى الاتجاه الإسلامي، ويتفاعل بدوره مع النساء الجديدات. ولا مجال هنا للتفصيل في هذا التحكّم، وكيف تدور لعبته بين الحاكم ورجل الدين، أو الوسطاء بينهما. تكفي دلالة تلك الفتوى الدينية التي تحرّم لبس البنطلون. وأهم حيثيات هذا التحريم، بعد أن يكون البنطلون قد أبرز "مفاتن النساء" أنّه، أي البنطلون، "فيه تشبّه بالرجال" فيما تنصّ المادة الـ 52 من القانون الجنائي السوداني على عقوبة خمسين جلدة لكلّ فتاة ترتدي البنطلون (نُفِّذت العقوبة عدة مرّات). وهذه عيّنة من حالات التعايش بين نسوية عالمية تخترق جدار الأوطان ورجعية دينية ما زالت مرعوبةً من المراحل الأولى من معارك هذه النسوية في التشبّه بالرجال.
أما الظاهرة الأكثر إثارة للاهتمام، فهي مآلات الذكورة في هذه الأحداث. أقول "ذكورة"، وأود أن أستبدلها بـ"رجولة"، لو لم تكن "الذكورة" نظيرة "الأنوثة". والبداية كانت مع الحلَق (القُرْط) صغير الحجم، في الأذن الواحدة. مثل أولى بنطلونات النساء. كان هواة هذه الحُلى من الهامشيين أو المثْليين. ومع الوقت، انتشر الحلَق في أذنَيِ الرجال، الرفيع والغليظ، والمرصّع بالجواهر أو البسيط، وأحياناً الحَلَق المستوحى من القبائل البدائية، الذي يوسّع شحمة الأذن، حتى تصير أكبر منه، وأكثر بياناً.
حالات من التعايش بين نسوية عالمية تخترق جدار الأوطان ورجعية دينية ما زالت مرعوبةً من المراحل الأولى من معارك هذه النسوية في التشبّه بالرجال
بعد الحلَق، تتالت أشكال الرجال وأكسسواراتهم وألوانهم المستوحاة من هندام النساء. عروض أزياء نادراً ما تُشاهد فيها إصراراً على قوة العضلات أو عرض الأكتاف أو انتصاب الجسد، كما في الماضي. إنما رجال مزيّنون، يمشون مثل عارضات الأزياء، يربّون اللحية الهندسية، ويضعون الجاكيت على أكتافهم، يودّون الاسترخاء. وفي أقصى العروض تطرّفاً تخرج من الأكمام الفراشات، وتطرَّز التنورة، وأحياناً الفستان الرجالي، وألوان زاهية، ولا تستبعد الكعب العالي... وهذه أزياء في طريقها إلى الانتشار والتنوّع، وتستهدف كلّ الرجال، مهما كانت هويتهم الجنسية.
بعد التشبّه بالنساء في الهندام، يأتي التشبّه بالنساء في الأدوار. في العناية بالأطفال منذ ولادتهم. في شوارع المدن الأميركية والكندية، ستصادف رجالاً كثيرين يجرّون عربات مواليدهم الجدد. يحملونهم على أكتافهم، يرضعونهم، يغيّرون حفاضاتهم. هذا أمام المجتمع والناس. والاثنان لا يستهجنان على الإطلاق، بل يرحّبان. وإذا أردتَ ان تعرف أكثر من ذلك، واستكشفت "غوغل" ستلاحظ أشياء أخرى، من أنّ القانون العائلي يمنح الأب خمسة أسابيع إجازة منذ ولادة صغيره. أي إنه يحثّه، بالقانون، على القيام بهذا الدور. لكنّ الآباء لا تكفيهم هذه "الحقوق الجديدة الممتعة". يريدون أكثر، فتظهر بعد بحث آخر عشرات من الجمعيات، ومن اتحادات الجمعيات، كلها رجالية، تعالج قضايا الأبوة، تدعمها بالاستشارات، تنظم من أجلها المطالبات و"اللوبييغ"، تقوم بالإحصاءات، تطرح التساؤلات التي يواجهونها مع أولادهم من الولادة وحتى بلوغ سنّ الرشد، وأحياناً ما بعده. وسواء أكانوا أولادهم البيولوجيين، أم أبناءً بالتبنّي.
بعدما حقّقت النسوية أحد أبرز أهدافها، بأن اجتاحت النساء مجالات الرجال، وأغارت على أدوارهم الرفيعة، ها هم الرجال يقلبون الآية، ويردّون هم أيضاً على ذاك التقسيم الجنسي البغيض للعمل، ويستعدّون لاقتحام مجالات النساء وتبنّي أدوارهن، بالأبوة خصوصاً. انقلاب يعدّل أعباء الأمومة، يغيّر مجرياتها وربما أيضاً مهاراتها وعواطفها. فيُطرح السؤال عن مستقبلها: كيف تكون الأمومة بعد حين؟