فيصل درّاج .. تكريمان مستحقّان
الذائع تعريف فيصل درّاج (79 عاما) بأنه ناقدٌ أدبيٌّ فلسطيني، وهذا صحيحٌ، لكنه ناقص، ومضلّلٌ ربما، فاشتغالات صاحبه تذهب إلى النقد الثقافي، العام أحيانا والعربي غالبا والفلسطيني خصوصا، وإنْ وجب، بداهةً، تعيينُه بأنه من أبرز نقّاد الرواية العربية ودارسيها، ومن أكفأ المثابرين على ملاحقة نتاجاتها، غير أن التحديق الجادّ في الذي يُصدره، أقلّه منذ ثلاثة عقود، من كتبٍ وأبحاث، يأخذنا إلى كتابةٍ موصوفةٍ بالمرونة والحيوية، وهي تجوسُ في النص الروائي، من دون كثير انضباطٍ باشتراطاتٍ نقديةٍ مسبقةٍ، غير أنها كتابةٌ تحفر فيه، وتصله بفضاءٍ ثقافي عام، وهذه واحدةٌ من مزايا عديدة في جهود صاحب "ذاكرة المغلوبين ..". وعندما نتذكّر أن أستاذنا يحمل الدكتوراه في الفلسفة من "السوربون" في باريس (1974) في هيغل وماركس، يطرأ إلى الذهن أن صاحب تأهيلٍ عالٍ كهذا لا بد وأن يعمل في التدريس الجامعي، ويؤلّف فيه ربما، غير أن صديقنا، باستثناء عامين أستاذا في المعهد العالي للمسرح في دمشق، انصرَف إلى الدرْس والتفكيك في عملٍ محض ثقافي، اعتراضيٍّ واحتجاجيٍّ في عمقه، وبهمّةٍ ودأب، كان يزاول اشتباكا مع الحالة العربية، وفي القلب منها الفلسطينية، على المستوى الثقافي الجوهري، الأعمق، ولا ريب، من العارض السياسي. ولعل هذا يُسعف في تفسير "خصوصية" فيصل درّاج ناقدا أدبيا، فهو لم يتأهّل أكاديميا في اللغة والأدب والنقد، إلا أنه صار في صدارة أهل النقد الروائي العرب، وله سمتُه بينهم، يفيد فيه من مفاهيم وأفكار نقديةٍ من مظانّها الأجنبية والتراثية والحديثة العربية.
مناسبة هذا الإيجاز عن فيصل درّاج تكريمان له جدّا أخيرا، على مبعدة 12 عاما من نيله المستحقّ جائزة سلطان بن علي العويس في حقل الدراسات النقدية والثقافية، لمّا قال بيانُها بين ما قال ".. امتاز خطابه النقدي بدقّة المصطلح ووضوح الرؤية". أولاهما اجتماع عشرين كاتبا عربيا متعدّدي المشاغل الفكرية والإبداعية والنقدية، من البحرين إلى المغرب، في كتابٍ ضمّ مطالعاتٍ لهم في بعض ما كتب درّاج، وتحياتٍ منهم إليه، ونظراتٍ في أفكاره، وإطلالاتٍ على نتاجاتِه ومقولاته، كما أهداه خمسة باحثين دراساتٍ لهم. الكتاب "حارس الحكايات .. شهادات، دراسات، مراجعات"، إشراف وتحرير: عيسى برهومة وعامر أبو محارب (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2021). وتكريمٌ مثل هذا محمودٌ، يجدُر أن يكون ضمن سُنّةٍ عربيةٍ، فقليلةٌ كتب الاحتفاء بأصحاب عطاءٍ عربٍ مثل هذا. أما التكريم الآخر فهو منح لجنة تحكيم جائزة محمود درويش للإبداع (12 ألف دولار)، الأسبوع الماضي، فئة الفائز الفلسطيني، للدكتور درّاج، "لتفانيه في عمله النقدي والمعرفي"، و"قد كرّس جهوده كلها للنقد". وفي البال أن جائزة الإبداع الثقافي لدولة فلسطين مُنحها صاحب "الحداثة المتقهقرة .." في 2004.
أظنّها خدمةً ثقيلة القيمة يسّرها الكتاب التكريمي (شكرا للمشرفيْن عليه ومحرّريْه) في مختتمه الذي جمع "ببلوغرافيا فيصل درّاج"، فإنها توضح اتّساع الساحة المعرفية والثقافية التي أمضى صاحب "رواية التقدّم واغتراب المستقبل" سنواتٍ، يستكشف فيها، ويضيء عليها، بقلم الناقد الفاحص، المنتقد الطموح. والاتساع هنا يؤشّر، فحسْب، إلى ما هي موصولةٌ به قضايا الكتابة العربية، وفكر أهل النهضة والتجديد في مطالع القرن الماضي، وأسئلة الحرية وأدوار المثقف، وهذه المسائل وغيرُها متصلةٌ، بكيفٍ ما، مع درس فيصل درّاج مشاريع عبد الرحمن منيف ونجيب محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا، الذين أوْلاهم كاتب "نظرية الرواية والرواية العربية" انشغالا خاصا، وأيضا طه حسين من قبلُ ومن بعد. وقد التقط غير دارسٍ حصيفٍ في الكتاب التكريمي ما ظلّ جوهرانيا في فكر فيصل درّاج، وهو يكتبُ مطالعاتٍ عالية اللغة والكشف في روايات للبناني ربيع جابر والمغربي سالم حمّيش والسوري فواز حداد والأردني إلياس فركوح وعشرات غيرهم من أجيالٍ متعاقبة. وفي الأحوال عامة، بقي أستاذنا أمينا لقناعته المتوطّنة فيه منذ زمن، أن أي نقدٍ أدبيٍّ منغلقٍ على ذاته، ومبتعدٍ كليا عن مجالات المعرفة الإنسانية الأخرى فقير، لأن للنقد الأدبي علاقة بالفكر السياسي، وبالحياة وتاريخ الثقافة. .. ومنظورٌ فكريٌّ كهذا هو ما يجعل كتابات درّاج لا تتقادَم. لو نقرأ مثلا "بؤس الثقافة في المؤسّسة الفلسطينية"، الكتاب الذي أصدره في 1996، ثم نبحلق في الذي قدّامنا فلسطينيا.