في أحوال اليسار المغربي
تُظْهِر معاينة أحوال اليسار المغربي اليوم، سواء في تنظيماته أو في إعلامه ولغته، ونمط حضوره في وسائط التواصل الاجتماعي، بَعْضَ صُوَر التَّصَلُّب التي أصبحت سمةً ملازمة له في المشهد السياسي. ونتصوَّر أن جوانب عديدة من مظاهر فقره النظري وهامشيته تعود إلى إهماله البعد الثقافي الذي كان يمنحه، في أطوار تشكُّله الأولى، القوة والجاذبية اللتين كان يتمتع بهما. أما الارتباك الحاصل اليوم في أغلب تياراته، فيعود أيضاً إلى عدم إدراكه التحوّلات الجارية في المجتمع المغربي وفي العالم أجمع. وعندما نضيف إلى ما سبق، تشرذمَه في حلقات صغيرة مُغلقة، نُدرك أسباب التراجع التي قَلَّصَت مساحات حضوره داخل مجتمعنا.
تَبرز أعطاب اليسار في التشرذم الذي لا مبرّر سياسيا له، كما تَبرز في تقصيره الكبير في بلورة التصوُّرات والمفاهيم المرتبطة بنوعية التحوُّلات الجارية، في المجتمع المغربي وفي العالم، حيث يُواصل كثير من القِوَى اليسارية تحليل صور الصراع المتجدّد في مجتمعنا، بمفرداتٍ لا تحيط بالظواهر في تحوُّلها المتواصل. كما تُواصل ذهولها في موضوع القيام بمقتضيات التعبئة المطلوبة لاستيعاب ما جرى ويجري داخل المجتمع. نفهم جوانب من أعطابه ضمن سياقاتٍ مركَّبة ومعقَّدة، ترتبط بمحيطنا المحلي والعربي، وأغلبها سياقات تاريخية ذات صلة بمآزق اليسار وأزماته في العالم. وفي الأفقين معاً، نقرأ الأعطاب بلغة التاريخ، ونفكّر في تجاوزها أو التقليل من آثارها السلبية باللغة نفسها، حيث يمكن بناء (وإنضاج) الاقتراحات والإجراءات المساعِدة على تخطِّيها.
يُمكن حصر التحدّيات التي تواجه اليسار المغربي في قضايا كبرى، مرتبطة بدوائر الصراع السياسي المتجدِّد في المجتمع. وهي تحدّيات لا يمكن تجاوزها إلّا بإيجاد المخارج المناسبة لها أولاً وقبل كل شيء، حيث يُفْتَرَض أن يعيّن اليسار حدوده، ويستوعب جدليات الصراع المتحرِّكة في عالم متغيِّر. ولا يمكن تعيين حدود اليسار في المشهد السياسي المغربي إلا بمحاولاتٍ تنجز قراءة استرجاعية ونقدية للمؤشِّرات الكبرى، الصانعة جوانب مهمة من ماضيه وحاضره. ونفترض أن قوّته المنتظرة تَبْرُز في كيفية إنجازه هذه المواجهة الضرورية والمطلوبة، وإذا لم يتم ذلك بصورة سريعة ويقظة، فسنواصل العَدّ العكسي لمسيرةٍ تشهد اليوم علامات نهايتها المتصاعدة.
تعادل صلابة التحدّيات التي يواجهها اليسار في محيط العمل الحزبي، في المشهد السياسي المغربي اليوم، صلابة أخرى ترتَّبت عن تجربته في العمل السياسي في السلطة وفي المعارضة
يبدو أن اليسار المغربي لم ينتبه إلى أن مختلف أحزابه الصغيرة اليوم، وعددها أكثر من ستة، ليست أكثر من تياراتٍ سياسية، رغم أنها تحمل اللافتة الحزبية. إنها مجموعاتٌ صغيرة قابلة لامتلاك التسمية الحزبية بتركيبها لمجموع يمنحها، عند تَحَقُّقه، مواصفاتٍ تمكّنها من الحضور السياسي النوعي للأحزاب الفاعلة في قلب المشهد السياسي المغربي. وإذا كان النظام السياسي المغربي في العهد الجديد يدعو إلى تجديد النخب السياسية، ويواصل تدخّله في واقع المشهد الحزبي بمختلف مُكوّناته، فإن على الفاعل السياسي أن يبادر بتطوير أدائه وأدواته، في زمن يعرف تغيرا كبيرا في مؤسسات العمل السياسي الديمقراطي، وفي مقدمتها مؤسّسة الحزب.
تعادل صلابة التحدّيات التي يواجهها اليسار في محيط العمل الحزبي، في المشهد السياسي المغربي اليوم، صلابة أخرى ترتَّبت عن تجربته في العمل السياسي في السلطة وفي المعارضة. والإشارة هنا إلى تركة الخلل التنظيمي التي يحملها كثير من أجنحته وتياراته، كما نشير إلى عدم قدرة كثير من مُكَوِّناتِه على تجاوز إرثها التقليدي، في كيفيّات وطُرُق تعامُلها مع تحوُّلات المجتمع والقيم في مجتمعنا. إنها تُعَدّ اليوم سَجينَةَ أسماءٍ وخياراتٍ ترتبط بأسئلة زمن الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي. أما أسئلة اليوم المرتبطة بنهاية القرن الماضي وبدايات ما أصبح يُعْرَف بالعهد الجديد، وأسئلة تداعيات الربيع العربي وحركة 20 فبراير ودستور 2011 فإنها أسئلة جديدة، ونتصوَّر أن اليسار، بمختلف ألوانه وتياراته، لم ينجح في بلورتها بدقّة أولاً، ليبدأ بعد ذلك في تركيب الأجوبة المناسبة لمقتضياتها .
استأنست أحزاب اليسار، رغم عِلَلِها السياسية العديدة، بمواقف متعدِّدة من أحوالها وأحوال النظام السياسي المؤطّر لوجودها. وإذا كان بعضٌ منها قد استأنس بنوعٍ من الانخراط المتواطِئ مع متطلّبات النظام وصُور ترتيبه مشهدنا السياسي والحزبي، فإن بعضها الآخر رَسَم لنفسه خطوطاً مُتَدَرِّجَةً في مسألة التوافق مع سياقات الوضع العام وإكراهاته، مكتفياً بقليل من التميُّز عمّا أصبح يسمَّى اليسار المخزني.
مشروع إعادة الاعتبار لقيم اليسار في حياتنا السياسية يدعونا إلى بناء بديلٍ تاريخيّ جديد، مكافئ للتحدّيات التي نواجهها اليوم في عالمنا
يَحِقُّ لِمَن يتابع تحوُّلات اليسار المغربي أن يتساءل عن الأسس والمرجعيات الأيديولوجية والنضالية، التي تنشأ فيها الاختلافات الحاصلة اليوم بين أحزابه. كما يَحِقُّ له التفكير في النتائج التي أثمرت هذه الاختلافات، في موضوع الرَّفْع من درجات التأثير والتعبئة وأنماطهما، التي يمارسها تعدّده الكَمِّي في المشهد السياسي المغربي. تُمَكِّنُنا هذه الأسئلة من قياس درجة التوسُّع التي حقَّقها الخيار اليساري في الكتلة الناخبة من جهة، ودرجة التطوُّر التي حقَّقَها الخيار الديمقراطي في المجتمع وفي ثقافتنا السياسية. وعندما نُعَايِن نتائج انتخابات 2011 و2015 ثم انتخابات 2021، نكتشف بصورة واضحة أن اليسار المغربي في تراجُع مستمر، مقابل استمرار مواصلة اكتساح اليمين المحافظ، بأشكاله وأنماطه المختلفة، مواقع متقدِّمة في سُلَّم الخرائط الانتخابية، الْمُعَدَّة بكثير من الترتيب المناسب لصور التَّقطيع الانتخابي المعتمدة من جهة، والمناسبة من جهة ثانية، لباقي أكسسوارات اللُّعْبَة السياسية الديمقراطية وتوافقاتها، في أشكالها المحسوبة بكثير من الدِّقَّة والترتيب.
لا يجادل أحدٌ في أن مآزق كثيرة عَطَّلَت قِوَى اليسار في مجتمعاتنا، تعود، في جانبٍ مهم منها، إلى غياب التحديث المؤسّسي، حيث تواصل مُطالَبَة الأنظمة السياسية العربية بالتحديث والمأسسة، في وقتٍ يواصل كثير من قياداتها معاملةَ الأجيال الجديدة، بأساليب في العمل تشير إلى قيم الزوايا والمشيخات، وهي قيم اندثرت وحلت محلَّها قيمٌ جديدةٌ في عالم أكثر تواصلاً .. نتصوَّر أن مشروع إعادة الاعتبار لِقِيم اليسار في حياتنا السياسية، يدعونا إلى بناء بديلٍ تاريخيٍّ جديد، مكافئٍ للتحدّيات التي نواجهها اليوم في عالمنا. ولن يتم ذلك إلا بإنجاز مجموعة من التفاعلات الضرورية، مع مختلف التحوُّلات التي عرفها مجتمعنا وعرفها العالم نهاية القرن الماضي ومطالع الألفية الثالثة، ذلك أن بناء بديلٍ تاريخيٍّ لليسار في عالمنا يتطلب الانخراط السريع في مواجهة أعطابه التاريخية، ليتمكَّن من مغالبة صُوَر تراجعه في المشهد السياسي المغربي.