"في أسئلة براسي" يا لبنان
يقول الفنان الفلسطيني فرج سليمان، في مطلع أغنية جميلة له: "في أسئلة براسي"، يحاكي فيها مشتاقاً لحبيبته، سائلاً عن داره وحيّه وقريته، في لحظةٍ مسكونةٍ بالذكريات في المهجر. لندع سليمان في برلين. في لبنان، هناك أسئلةٌ كثيرةٌ لا تجد أجوبة لها، مثل لماذا من الصعب تأمين المياه في بلد المياه؟ لماذا بلادٌ لا تتجاوز مساحتها حياً صغيراً في بلدٍ ما، تعاني في توفير الكهرباء؟ لماذا يبدو الفساد وكأنه أمر حتمي ولا غنى عنه؟ لماذا تتغيّر كتب المدرسة كل عام، ولماذا "التوجيه" نحو مكتبة محدّدة لشراء المستلزمات؟ لماذا يتعاون بعض الأطباء مع بعض الصيادلة لتوجيه مريض إليها ووصف أدويةٍ قد لا تكون منتجة، وذلك على قاعدة "الربح المشترك"، وأن "الزبون زبون"، ولو أن صحته على المحكّ؟ لماذا من الصعب تنظيم قطاع المواصلات والنقل، بمعزل عن الميترو والقطارات التي تحدّث عنها سياسيون وأحزاب مراراً؟ لماذا من الصعب إجراء تنظيم مدني، يُنهي البناء العشوائي المتسبّب في تدمير نظم بيئية ومجاري الأنهر والسواقي، ويسمح في تمليك العقارات وتأجيرها بطريقة سهلة ولمصلحة جميع الناس؟ لماذا لا تبدو سهلةً مراقبة غلاء الأسعار وفرض الرقابة على كل البضائع، من مستوردة ومحلية؟ لماذا يبدو كل من حكم لبنان ويحكمه وكأنه منقطعٌ عمّا يريده الناس وحاجاتهم؟
يخت. طائرة خاصة. لا ينقصُهم دواء ولا ماء ولا كهرباء ولا تدفئة ولا تبريد. يشاهدون المونديال عن كثب. يطيرون من مكان إلى آخر كل يوم. هدوء. لا شيء مرعباً، سيقول أنصارهم: "هذا من فضل ربهم". طبعاً، المناصرون ليسوا نماذج تُحتذى، فما يقوله الزعيم هو الصحيح. أموالهم ليست في المصارف، بل يملكون المصارف. يرفع كل منهم شعارا طائفيا ومناطقيا وسياسيا. الموالي لهم يصفّق لفرحهم ويحزن لحزنهم، فيما هم لا يأبهون بما يحصل له. المونديال لم يُنقل عبر تلفزيون لبنان الرسمي. كله أمر، وانقطاع الأدوية المزمنة وتردّي الوضع الطبي أمر آخر. كم من مرضى توفوا لأسبابٍ متصلةٍ بنقص طبي؟ لكن هؤلاء لا يبالون. واليوم، وفي غمرة الحديث عن الدولار الجمركي وإعادة هيكلة المصارف ورفع الدعم عن الكهرباء، لا أحد يتحدّث عن أموال منهوبة وتهرّب ضريبي وجمركي. الآن امزجوا كل ما سبق، ما الذي سيظهر أمامنا؟ مجرّد رجال عصابات بثيابٍ أنيقة، ويملكون ألسنة فصيحة وأسلحة. أهلاً بكم في عالم العصابات اللبنانية، القاتلة إنساننا، فيما تسعى هايتي وهندوراس إلى القضاء عليهم في مدنهم وشوارعهم.
منذ أيام، ظهر الممثل الأميركي دواين جونسون، المعروف بلقبه، حين كان مصارعاً، "ذا روك"، وهو يردّ كل ما سرقه من ألواح شوكولا في أحد متاجر مسقط رأسه في جزيرة هاواي الأميركية. وأبدى جونسون ندمه على فعله، معتبراً أنه لا يمكن إصلاح كل الماضي، لكن المحاولة تكفي. طبعاً، في الفيديو إعلان لألواح الشوكولا وللمتجر، لكنه يبقى فعلاً لطيفاً. جونسون ردّ ما سرقه في مراهقته. أما في لبنان، فكل من سرق لا ينظر إلى ماضيه، بل يرى أن "من الطبيعي أن نسرق".
لن ينقطع تدفق سيل الأسئلة، وستتكاثر مع مرور الزمن، طالما أن لا حلول، لا على مستوى الفرد ولا الجماعة. واليأس العشوائي دائماً ما يكون محفّزاً للفرد، إما لارتكاب جناية أو جريمة، أو أن يقتله. أما إذا تمّ تنظيم اليأس فسيتحوّل إلى انتفاضة وعصيان وثورة. في لبنان، اليأس في عيون الناس كبير. تجدهم يتصادمون لأتفه الأسباب، وقد يكون مدعاة للسخرية، لو كنا في زمن ومكان آخرين. لا يتصارعون على هذه الأسباب التافهة لأن حياتهم فارغة، بل لأن يأسهم لم يجد طريقه إلى المكان الذي يجب أن يكون فيه: كل حاكم يملك يختاً وطائرة ودواء وكهرباء وماء وتبريداً وتدفئة ويشاطرهم السكن في هذه البقعة المسمّاة لبنان.