في أسباب انسداد أفق التسوية للأزمة السودانية ونتائجه
لم تنفجر الأزمة السودانية الراهنة بسبب صراع شخصي بين جنرالين يتنافسان معا على الانفراد بالسلطة وتوسيع دائرة نفوذهما ومصالحهما الخاصة، كما يدّعي بعضهم، فلهذه الأزمة جذورٌ عميقة غرستها صراعاتٌ قبليةٌ وقوميةٌ ودينيةٌ وطائفيةٌ متداخلةٌ ومتشعّبة. ولا بسبب صراع تاريخي بين "مجتمع مدني" يطمح في إقامة دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطية حديثة و"عسكر" يصرّون على الهيمنة المنفردة على مفاصل السلطة والثروة، كما يدّعي آخرون، لأن المرحلة الراهنة من الأزمة السودانية تعدّ امتدادا لأزمةٍ أكثر شمولا تمسّ مختلف مكوّنات المجتمع والدولة في السودان، بشقّيهما المدني والعسكري.
صحيحٌ أن المؤسّسة العسكرية تمكّنت من السيطرة على مفاصل الحياة السياسية في السودان فترات طالت، منذ حصول السودان على استقلاله عام 1956. وصحيحٌ أيضا أن المجتمع المدني السوداني لم يستسلم قط لهذا الوضع، باعتباره أمرا واقعا، وإنما نجح في تغييره عبر سلسلة لم تنقطع من الثورات، لكنه فشل في كل مرّة في إقامة دولة ديمقراطية حديثة مستقرّة وقابلة للدوام. ومع التسليم بأن الأزمة الراهنة في السودان هي امتدادٌ، بشكل أو بآخر، لصراع دائم بين المؤسسة العسكرية، من ناحية، وقوى المجتمع المدني، من ناحية أخرى، إلا أن المرحلة الراهنة من مراحل تطوّر هذا الصراع تختلف عن كل ما سبقها من مراحل، فالأزمة الراهنة، ولأول مرة في تاريخ الأزمات السودانية الممتدّة، تتسم بوجود صراع مسلح من داخل المؤسسة العسكرية نفسها، بين جنراليْن متنافسيْن، يدّعي كل منهما أنه يعبّر عن رؤى ومصالح تيارات وقوى سياسية واجتماعية بعينها، فالفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات الدعم السريع، يدّعي أنه يعبّر عن التيارات والقوى المدنية التي قادت ثورة 2019، وسعت ولا تزال إلى تأسيس دولة مدنية ديمقراطية حديثة في السودان، ومن ثم يتهم منافسه قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بالسعي إلى تكريس حكم العسكر، بدعم من القوى السياسية والدينية المرتبطة بفلول النظام السابق، تمهيدا للانفراد وحده بالسلطة في مرحلة لاحقة. أما البرهان فيدّعي أنه يعبر عن كل القوى والتيارات السياسية والاجتماعية الحريصة على المحافظة على قوة الدولة السودانية ووحدتها وتماسكها، ممثلة في مؤسّستها العسكرية. ويتهم دقلو بأنه يقود مليشيات مسلّحة تعبر عن مصالح سياسية قبلية تسعى إلى تفتيت السودان وعن مصالح اقتصادية فئوية، ومن ثم، فإن نجاحه في السيطرة على مقاليد السلطة سيؤدّي حتما إلى تفتيت السودان وتحويله إلى كيانات صغيرة متصارعة، وهو ما تخطّط له بعض القوى الخارجية التي لا تريد للسودان أو للمنطقة بأسرها أن يستقرا.
أفق التسوية السياسية للصراع الدائر في السودان أصبحت شبه مسدودة، واحتمالات تحقّقها شبه معدومة
غير أنه يستحيل قبول ادّعاءات أيٍّ من الطرفين المتصارعين على علاتها، رغم ما تنطوي عليه بعض هذه الادّعاءات من وجاهة تعكس جانبا من الحقيقة، فربما يكون لدى حميدتي بعض الحقّ في اتهام البرهان بأنه يسعى إلى استغلال موقعه لإجهاض ثورة 2019، وتكريس عودة المؤسّسة العسكرية وهيمنتها على مفاصل الحياة السياسية، وهو ما يتّسق مع السلوك المعتاد للمؤسسة العسكرية السودانية وسجلّها الحافل بالانقلابات العسكرية. ولدى البرهان بعض الحق، حين يتهم حميدتي بأنه يقود مليشيا قبلية مسلّحة تهدّد وحدة المؤسّسة العسكرية، بل ولديه كل الحقّ، حين يرفض أن تُقاد المؤسسة العسكرية السودانية برأسين، ويصرّ على المطالبة بالدمج الفوري لقوات الدعم السريع في تلك المؤسّسة التي ينبغي أن تخضع لقيادةٍ ليس موحّدة فحسب، وإنما محترفة أيضا. غير أن المشكلة هنا أن أقوال الجنرالين لا تتسق مع أفعالهما، فلم ينس الشعب السوداني قط أنهما تعاونا معا لقطع الطريق على عودة الحياة المدنية ولإطاحة حمدوك من رئاسة الوزارة المدنية المكلفة بإدارة المرحلة الانتقالية، ما يبرّر تماما عدم ثقته في أيٍّ منهما، وقناعته بأنهما يسعيان معا إلى إشباع طموحات شخصية، والتعبير عن مصالح لا علاقة لها بطموحات الشعب السوداني ومصالحه. لذا يمكن القول، من دون تردّد، إن أغلبية ساحقة من الشعب السوداني تحمّل الجنرالين معا مسؤولية الحرب العبثية الدائرة بين جناحي القوات المسلحة، والتي تسبّبت في كوارث كبرى، ليس أقلها مصرع حوالي ألف مدني، وجرح ما يزيد على سبعة آلاف آخرين، ونزوح مئات آلاف ولجوئهم وهجرتهم، فضلا عن إصابة أوجه الحياة الاجتماعية بما يشبه الشلل التام، وكلها جرائم توجب المحاكمة، وإنزال أقسى العقاب بمرتكبيها والمتسبّبين فيها.
اندلاع صدام مسلح بين جناحين ينتميان معا للمؤسّسة العسكرية، ويقودهما شخصان لكل منهما طموحات ومصالح خاصّة، أحال المرحلة الراهنة من مراحل تطوّر الأزمة السودانية الممتدة إلى ما يشبه المباراة الصفرية التي تستحيل تسويتها سلميا. وتلك معضلةٌ تستعصي على الحل. شواهد كثيرة توحي بأن أفق التسوية السياسية للصراع الدائر في السودان أصبحت شبه مسدودة، واحتمالات تحقّقها شبه معدومة، فكل تسوية لا بد وأن تقوم على تنازلاتٍ مقبولة من أطرافها. ما يعني بقاء الجنرالين اللذين تسببا في إشعال الحرب في معادلة السياسة السودانية، بدلا من استبعادهما معا ومحاكمتهما، الأمر الذي سيفضي عمليا إلى تجميد الصراع بدلا من حله أو تأجيله بدلا من حسمه.
في خارج السودان قوى إقليمية ودولية طامعة في ثرواته غير المستغلة أو لها مصلحة في إضعافه وتفكيكه
ولأن حسم الصراع عسكريا لصالح أحد الطرفين، وهو أمر مشكوك فيه، لن يساعد على فتح الطريق أمام تسوية حقيقية وقابلة للدوام، يبدو السودان وكأنه دخل الآن في مأزقٍ لا مخرج منه، فانتصار أحد الجنرالين المتصارعين سيؤدّي حتما إلى تمكينه من الانفراد بالسلطة، ما يعني أن السودان سيخضع من جديد ليس إلى "حكم العسكر" فحسب، وإنما إلى هيمنة منفردة من أحد المتسبّبين في إشعال الحرب العبثية التي تدور حاليا، وهو وضعٌ يستحيل أن يتيح إجراء تحقيق موضوعي في الجرائم التي ارتُكبت في حق الشعب السودني، ناهيك عن محاسبة المتسبّبين فيها ومعاقبتهم. ومن الطبيعيّ، في سياق كهذا، أن تبدو ادّعاءات حميدتي بالدفاع عن الثورة السودانية، وحرصه بالتالي على نقل السلطة إلى المدنيين فور تمكّنه من حسم الصراع المسلح لصالحه غير قابلة للتصديق. كما تبدو ادّعاءات البرهان بأن كل ما يهمّه توحيد صفوف القوات المسلحة السودانية تحت قيادة عسكرية محترفة، بما يتطلبه ذلك من دمج قوات الدعم السريع فيها على الفور، وتأكيده على عدم تمسّكه بالسلطة وحرصه على عودة القوات المسلحة إلى ثكناتها وتسليم السلطة للمدنيين، غير قابلة للتصديق، فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن احتمالات حسم الصراع الدائر لصالح أحد الطرفين المتحاربين تبدو ضئيلة، وأن الحرب المشتعلة على الساحة السودانية مرشّحة لأن تطول إلى أمد غير منظور، لأدركنا من جديد عمق المأزق الذي دخل فيه السودان، خصوصا أن ذلك سيساعد على فتح الطريق واسعا أمام القوى الداخلية والخارجية التي لا تريد للسودان أن يستقرّ وتسعى إلى تفكّكه. ففي داخل السودان صراعات قبلية ودينية وطائفية لها جذور عميقة، ومن ثم يتوقع أن تنتعش وأن تنمو من جديد في ظل صراع عسكري ليس من المستبعد أن يتحوّل إلى حرب أهلية شاملة في وجود قوى وحركات انفصالية ما تزال تحمل السلاح في وجه الدولة. وفي خارج السودان قوى إقليمية ودولية طامعة في ثرواته غير المستغلة أو لها مصلحة في إضعافه وتفكيكه وتحويله إلى دويلات متصارعة. ولسنا في حاجة هنا إلى إعادة التذكير بالمشروع الصهيوني لتفتيت الوطن العربي، والذي سبق أن كتبنا عنه مقالات أعدنا التذكير بها مرارا وتكرارا. (راجع مقالات الكاتب في صحيفتي "الدستور" الأردنية عام 2007 و"المصري اليوم" عام 2013).
أخلص إلى القول بصعوبة التوصّل إلى تسوية سياسية للصراع المسلح الدائر في السودان، سواء في ظل بقاء حميدتي والبرهان معا طرفين في هذه التسوية، أو في ظل تمكّن أحدهما من الانتصار ميدانيا على الآخر. معنى ذلك أن أي تسويةٍ سياسيةٍ قابلة للدوام في السودان ينبغي أن تضمن رحيلهما معا، اختيارا أو قسرا. لكن من يستطيع أن يضمن إقناعهما أو إجبارهما معا على الرحيل؟ أظنّ أن القوى المدنية السودانية وحدها القادرة على توفير مثل هذا الضمان، شريطة أن تتّحد وأن تتفق على خريطة طريق تضمن، في الوقت نفسه، بالإضافة إلى رحيل حميدتي والبرهان معا، وحدة المؤسّسة العسكرية السودانية، وخضوعها لقيادة موحّدة تعمل بكل جهد وإخلاص على إعادتها إلى الثكنات، وتتعهد أمام الشعب السوداني بعدم التدخل مطلقا في الحياة السياسية.
قد يكون هذا حلما بعيد المنال. ولكن يصعب على السودان، في غياب توفر العوامل اللازمة لنقله إلى أرض الواقع، تصوّر إمكانية بقائه قويا وموحّدا. ولأن ثقتي كبيرة في الشعب السوداني، لا أستبعد مطلقا أن يفاجئنا بإثبات أنه قادرٌ فعلا على تحقيق هذا الحلم الذي يتمنّاه له كل عربي مخلص.