في إنقاذ لبنان قبل فوات الأوان
بدأت الحرب في اليمن حين انقلب الحوثيون في العام 2014 على السلطة الشرعية واستولوا على صنعاء. يومها، أعلن زعيمهم عبد الملك الحوثي أنهم في خندق واحد مع إيران، وهو ما أثار مخاوف دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، من تمدّد النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، واقترابه، عبر الحوثيين، من حدودها المباشرة (145 كلم الحدود مع المملكة). لم يُخفِ نظام ولاية الفقيه في طهران نياته، وجهر مسؤول كبير فيه بأن بلاده تسيطر على أربع عواصم عربية، بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء. وكان رد المملكة على هذا الانقلاب بالتوجه فورا إلى دعم الشرعية، ومن ثم إقامة تحالف عسكري واسع من بعض الدول العربية، منها السودان والمغرب. وفي الحرب التي شنتها إيران بالوكالة، استخدم الحوثيون فيها أسلحة إيرانية، ودُعموا بعناصر من حزب الله لتدريب مليشياتهم في تحدّ سافر لدول الخليج، وليس مجرد استفزاز.
هذا ما يفترض أن يعرفه كل إعلامي مُطّلع على سير الأحداث، وإن أخذت منحى مأساويا على الشعب اليمني من كلا الطرفين. غُيبت الحقائق الأولى، وغرق المجتمع الدولي في متاهات الحرب، على الرغم من أنه سارع إلى إدانة الانقلاب منذ البداية. ومع استمرار حملة التحالف لدعم الشرعية، وتعرّض المملكة لهجمات متكرّرة بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة المصنعة في إيران، وازدياد رقعة الاشتباك خارج حدود اليمن، فقد بعضهم ذاكرتهم وما جرى وأصل الحكاية. إذ تحوّلت مواجهة التمدّد الإيراني في اليمن بالوكالة عبر الحوثيين إلى حربٍ عبثيةٍ، تسعى المملكة إلى التخلص من استنزافها، كما يسعى المجتمع الدولي إلى فرض حلول سياسية لوقفها. جرت مياه كثيرة تحت جسر هذا الصراع، تداخلت فيه الملفات السياسية الدولية بالحسابات الإقليمية، ولكن من دفع الأثمان الباهظة لهذه الحرب، وداسته حرابها، هو الشعب اليمني، عمومه في كل أرجاء بلده. وكي لا يدفع الشعب اللبناني أكلافا باهظة تزيد على أكلافه الحالية، يفترض أن يتعامل المسؤولون في لبنان بحكمة، وينأوا بلبنان عن الملفات الإقليمية حمايةً لمصالح الشعب اللبناني وحاجته الماسّة للخروج من أزماته الاقتصادية والمعيشية الطاحنة بعيدا عن التجاذبات الإقليمية. ونعني بالمسؤولين اللبنانيين ليس فقط أرباب السلطة السياسية الحاكمة بكل مستوياتها، بل أيضا السلطة الرابعة: سلطة الإعلام.
استخدم الحوثيون في حربهم في اليمن أسلحة إيرانية، ودُعموا بعناصر من حزب الله لتدريب مليشياتهم في تحدّ سافر لدول الخليج، وليس مجرد استفزاز
لذلك، لا يُعفي وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي من تورّطه في اتهام المملكة بالاعتداء على اليمن كونه لم يكن وزيرا حين أطلق هذه التصريحات، فضلا عن أن تصريحاته غير دقيقة في سرد وقائع الحرب في اليمن وخلفياتها الجيوسياسية أقله، وهو الإعلامي الذي يفترض أنه اطّلع على حقائقها منذ البداية. كما لا يمكن ألا نرى تورّطه في علاقات ودية جيدة مؤيدة للنظام السوري وبشار الأسد الذي سمّاه رجل العام (2008)، ولم يخف علاقته الوطيدة به، على الرغم من الجرائم التي يرتكبها هذا النظام بحق شعبه منذ أكثر من عشر سنوات. كما لا يمكن تجاهل سعيه إلى التوزير منذ سنوات، عبر تسويق نفسه لصالح ما يسمى زيفا "محور المقاومة والممانعة" الذي يرتكب الفظاعات بحق العراق واليمن وسورية. ويهيمن على لبنان عبر تغطية المنظومة السياسية الفاسدة. والأهم أننا لا نستطيع إلا أن نستهجن سطحية المواقف التي أطلقها جورج قرداحي في برنامج "برلمان شعب" على منصة ديجيتال لشبكة الجزيرة في شهر أغسطس/ آب الماضي (قبل توزيره)، بل واصطفافه الفاقع مع كل الأنظمة المستبدّة في البرنامج.
لكن لماذا الآن؟ ومن نقر على مقطع تصريحاته تلك، ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، وسعّر حملة ضروسا لتطاول بأنيابها ليس وزير الإعلام اللبناني فحسب، بل الحكومة اللبنانية بأسرها، لدفعها إلى الاستقالة تحت ضغط أزمة دبلوماسية مع دول الخليج التي التزمت الحكومة ببيانها الوزاري بإعادة بناء علاقات جيدة معها ومع كل الدول العربية، ربطا بالسعي إلى إنقاذ لبنان من نكبته الاقتصادية، وإجراء انتخاباتٍ نيابيةٍ ستُحدث تغييرا كبيرا متوقعا لغير مصلحة "محور المقاومة والممانعة" الذي يتخبّط ويدور حول نفسه منذ ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر (2019) في لبنان، وهذه الأزمة التي سبقتها سلسلة أزمات مع السعودية، افتعلها وتسبّب بها حزب الله وحلفاؤه في المنظومة السياسية، كان آخرها تورّط وزيرالخارجية اللبناني السابق شربل وهبة في تصريحات مسيئة وعنصرية ضد الشعب السعودي، أفضت إلى استقالته من حكومة حسّان دياب المستقيلة أصلا. وسبقه وزير الخارجية الأسبق جبران باسيل، في أكثر من مرّة، بارتكاب تصريحات مسيئة. ناهيك عن تهريب كميات هائلة من مخدّرات الكبتاغون من لبنان، والتي يجري تصنيعها في مصانع يشاع أنها لحزب الله في البقاع، إلى السعودية والكويت وأكثر من بلد خليجي. وتاليا، تأثر اللبنانيون واللبنانيات سلبا بهذا التعاطي مع دولٍ كانت على الدوام مفتاحا للدعم والاستقرار الاقتصادي للبنان في جميع أزماته، ولم تتزعزع هذه العلاقات إلا بعد هيمنة حزب الله على لبنان.
ربما تؤدّي الأزمة الناشئة مع إشهار تصريحات جورج قرداحي إلى تطيير الحكومة اللبنانية، ما سيقود حتما إلى التمديد لمجلس النواب، والغلبة فيه لحزب الله وحلفائه
نعم، ربما هنالك آراء وتحفظات عديدة على سياسة العربية السعودية في الداخل والخارج. مع تُفهم المخاوف التي دفعتها إلى تشكيل تحالف "عاصفة الحزم" لدعم الشرعية اليمنية ووقف التمدّد الإيراني إلى حديقتها الخلفية في اليمن التي تشترك معها في حدود تبلغ 145 كلم. كما يؤلمنا جميعا سقوط آلاف الضحايا وتشريد آلاف اليمنيين والدمار الهائل الذي لحق باليمن ومساكنها، كما انتشار الجوع والعطش والأوبئة في ما يفترض أنه اليمن السعيد، وتحوّل في غضون نزاع عسكري مديد إلى اليمن التعيس، وانضم إلى طريق الجلجلة الذي تسير عليه شعوب عربية عديدة بعد تراجع ثورات الربيع العربي، بفعل انقلابات مضادّة من مصر وتونس واليمن وليبيا والسودان. وإن اتخذت هذه الانقلابات ألف لبوس ولبوس، تتغير من بلد إلى آخر. لكن الأكيد أن المنطقة العربية بدولها كافة تواجه معركةً وجوديةً تختلف من بلد إلى آخر، لكنها جميعا في مواجهة تهديداتٍ إقليمية ودولية وداخلية ... إلخ. وفي الأثناء، ثمّة الافتقاد للحكمة السياسية لمعالجة أزمات المنطقة، لا سيما من الدول العربية الغنية لتساهم في حلها بدل الدوس على الشعوب الضعيفة وتجزئة الحلول وإعلاء المصلحة القُطرية على المصالح العربية العليا، بينما يمكن لها البحث عن حلول حكيمة وأقل كلفة إنسانيا. أقله ألا يترك شعبٌ وحيدا، ويُسمح بتحويله للقمة سائغة في فم العدو المشترك. يجب أن يجري الفصل سريعا بين اللبنانيين واللبنانيات بكل فئاتهم وطوائفهم من جهة والطبقة السياسية المهيمنة، عبر حزب الله، على الشعب اللبناني، وتمارس النهب المنظم لمقدّراته من أموال عامة وخاصة، ومن علاقاته التاريخية مع أشقائه العرب، بل وتُمعن في تدمير مؤسسات الدولة، ليسهل ابتلاعها، حيث لا معين للبنانيين واللبنانيات سوى أنفسهم، وهم باتوا ضعفاء للغاية، ولا سيما بعدما تمت سرقة ودائعهم وإفقارهم عمدا، حتى لا تقوم لهم قائمة في ما لو أرادوا المقاومة. فما تعجز المملكة ودول الخليج عن مواجهة الحزب، بعد سنواتٍ من الصراع مع إيران وحرس الثورة، ولا يعقل ما يطلبوه من لبنان أو من بعض الساسة اللبنانيين، ففيه قصر نظر وافتقار للإبداع السياسي، خصوصا في لحظة زمنية زلقة، تتعثر بلزوجتها كبار الدول. لذا من الضرورة رؤية الصورة الكاملة للمشهد السياسي وشبكة المصالح وطموحات إقليمية تحيط لبنان، وعدم ترك هذا البلد وحيدا، لبنان الشعب.
ربما تؤدّي الأزمة الناشئة مع إشهار تصريحات جورج قرداحي إلى تطيير الحكومة اللبنانية، ما سيقود حتما إلى التمديد لمجلس النواب، والغلبة فيه لحزب الله وحلفائه في تيار التغيير والإصلاح (العوني) وتيار المردة، فضلا عن كتلة رئيس المجلس النيابي، نبيه برّي. ومن شأن أمر كهذا أن يُبقي توازنات تتيح لحزب الله أن يأتي بمن يشاء رئيسا للجمهورية، ويحافظ على موازين القوى القديمة، استباقا لمواجهة مصير مماثل لما حدث في العراق من تراجع للنفوذ الإيراني.
تصريحات قرداحي غير دقيقة في سرد وقائع الحرب في اليمن وخلفياتها الجيوسياسية
تصريحات قرداحي غير دقيقة، وسطحية في الغالب في توصيف الوضع في اليمن. وإن يؤمل أن تتوقف الحرب في اليمن التي لم تعد مجديةً لجميع الأطراف، ولا طائل منها غير التسبّب بمزيد من الاستنزاف والعذابات والخسارات للجميع، ولا سيما أن تسعير هذه الحملة المريب في مواقع التواصل الاجتماعي ما هو إلا سيناريو لاستباق نتائج الانتخابات التي لو جرت قد تحدث تغييرا جوهريا، كما حدث في انتخابات العراق، قد لا تعجب نظام ولاية الفقيه الذي يتهيأ لجولة جديدة من مفاوضات الاتفاق النووي، وسط تراجع متزايد في سطوته الإقليمية، فضلا عن أزمات جواره في أذربيجان، وتململ جاليتها في إيران، والتي تعمل مع مكوّناتٍ أخرى عرقية، كالأكراد والأهواز الذين يشتركون في العداء مع السلطة المركزية في طهران.
ولتكن الكلمات طيبة ومسؤولة، كي يحدُث ما هو طيب للبنان واليمن، ولكل البلدان التي يعبث بها الخبث وسمّ العقارب، وكي تكون للشعب السعودي كلمته، فهو أحق ممن في خارج المملكة بالنقد والقول والفعل، فأهل مكة أدرى بشعابها. وهو ما ينطبق أيضا على الشعب اللبناني، بل على كل الشعوب، ولا سيما في هذا الزمن الزئبقي العنيد الذي يهز دول المنطقة وشعوبها، ويجعلها ترتجّ على وقع متغيرات سياسية واقتصادية في موازين القوى، لا قِبَلَ للبنان على التورّط فيها، ولا سيما في ظل نكبة اقتصادية خانقة تهدّد وجوده.
لذا ربما من الأجدى تجاهل كلام جورج قرداحي وعدم المبالغة بردة الفعل عليها، ولا على كل الإساءات التي تحاول استدراج الفتنة بين دول الخليج ولبنان. بل تقتضي الحكمة والأخوة المسارعة إلى إنقاذ لبنان من براثن هذه الهيمنة المميتة قبل فوات الأوان.