في التحرّش والاغتصاب
في آخر الأمر، هناك ضحايا وأذىً بالغٌ يلحق بهم، وهو ما ينساه كثيرون ممن يدافعون ضمناً عن التحرّش، أو يسعون إلى إعادة تعريفه، فإذا هو لديهم مجرّد تودّد زاد عن حدّه.
تعيد وقائع محاكمتي المغني المغربي سعد لمجرد والمنتج والمخرج الأميركي هارفي واينستين، أخيرا، إلى الواجهة فيلماً مأخوذاً عن قصة حقيقية "مفاجأة مذهلة" (إخراج جاي روتش، 2019)، ويتناول استغلال النساء، خصوصا إذا كن جميلات، في الإعلام، فرئيس شبكة فوكس نيوز يرفّع مَن تروقه من الصحافيات ويمنحها ما ترغب به إذا استجابت له، فيُقطعها برنامجاً لتقدّمه في أوقات الذروة. والاستجابة المطلوبة جنسية، وتُطلب بالإلماح بدايةً قبل أن تتحوّل إلى دعوة فجّة. وفي حال الرفض، يتحول سلوك الرجل الكبير في السن، والمحافظ سياسياً، إلى الغلظة في الانتقام، ويبدأ بعملية تهميش متدرّجة وتكاد تكون معلنة للصحافية أو المذيعة المستهدفة، وصولاً إلى تدميرها واعتزالها المهنة والعالم والناس أجمعين.
لم يُحدِث الفيلم ضجة في الولايات المتحدة عندما عُرض، رغم أنه من تمثيل ثلاثة من أجمل نساء هوليوود، شارليز ثيرون ونيكول كيدمان ومارغو روبي. ويُعتقد أن سبب ذلك تواضع مستوى الفيلم، وأن موضوعه مطروق، وأبطاله معروفون بعلاقاتهم مع الرئيس السابق دونالد ترامب الذي لاحقته اتهامات بالتحرّش أسوأ من التي يتناولها الفيلم، فلا جديد إذن.
على أن ذلك يُغفل أمرين: أولهما أن المتحرّش يتحرّك داخل منظومة مُحكمة، تقوم على التواطؤ بينه وبين ضحيته، فكثيرات من ضحايا هارفي واينستين، وهو من كبار منتجي السينما الأميركية، رضخن لرغباته على أمل الظفر ببطولة فيلم كبير أو دور رئيسي، في ظل التنافس الشرس وغير المعلن على الأدوار الكبيرة. ومن تابع وقائع محاكمة الرجل سيتعرّف إلى أسماء عشرات الممثلات اللواتي تعرّضن لابتزازه وتحرّشه، ومن بينهن أنجيلينا جولي وأشلي جود وكيت بيكنسيل، وسيعرف أن الكل كان يعرف ما يفعله من دون أن يقاوَمه أو يُقاطعه ويُشهّر به. وباستثناء حالات قليلة، مثل حالة غوينيث باليترو بطلة "شكسبير عاشقاً" الذي أنتجته شركة واينستين، فإن بقية الممثلات أو أغلبهن التزمن الصمت، وحصلن على أدوارٍ في أفلام أنتجها، ولم يتحدّثن إلا بعد سنوات طويلة، ما يؤكّد أن التحرّش، والاغتصاب تالياً، لا يتوحّش إلا بالتواطؤ والصمت.
يتعلق الأمر الثاني بآليات السلطة والنفوذ، فتواطؤ الضحية يترافق غالباً مع تواطؤ السلطات، وربما الرأي العام الذي يتعاطف أحياناً مع المتحرّش، خصوصا إذا كان متنفذاً أو مشهوراً. وحالة المغني المغربي سعد لمجرد مثال، فبعضهم لم يتحرّج من الدفاع عنه، رغم أنها ليست المرّة الأولى التي يُتهم فيها بالتحرّش ومحاولة الاغتصاب في بلاده وفرنسا.
أما حالة جيفري إبستين (انتحر في زنزانته عام 2019)، فتكاد تكون غير مسبوقة، فالملياردير المهووس بالقاصرات حظي بتواطؤ واسع النطاق من السلطات خلال محاكماته وملاحقته التي بدأت عام 2005، فقد دافع عنه كبار المحامين في الولايات المتحدة، وضغط النائب العام على سلطات إنفاذ القانون، وعقد صفقة مع محامي إحدى الضحايا جنّبت إبستين محاكمة فيدرالية، وجعلته يقضي فترة قصيرة في الحبس. وفي وثائقي بثته "نتفليكس" عنه، لم يُسجن فعلياً.
لم يتحرّش إبستين وحسب، بل كان أيضا يغتصب فتيات صغيرات، ويقدّمهن لاحقاً إلى متنفذين ورجال أعمال، ويدفعهن إلى استدراج أخريات لتقديم خدماتٍ جنسيةٍ لمرتادي حفلاته، ومن بينهم ترامب والأمير أندرو الذي جرّدته الملكة إليزابيث في آخر أيامها من ألقابه وأدواره الملكية كلها على خلفية ذلك. لقد تواطأ الجميع تقريباً مع إبستين إلى درجةٍ جعلته يدافع عن جرائمه باعتبارها جُنحاً صغيرة. وفي مقابلة مع "نيويورك بوست" عام 2011، قال إنه ليس وحشاً مفترساً يبحث عن طرائده لإشباع رغباته الجنسية، بل مجرّد مذنب، والفرق بين الأمرين، كما قال، كالفرق بين جريمة قتل وسرقة قطعة من الغاتو.
هذا بالطبع ما يردّده كثيرون في معرض دفاعهم عن هذا المطرب أو المشهور أو المتنفذ بالقول إنه لم يفعل شيئا كبيراً. كان يستمتع ليس أكثر، وفعل ذلك من دون اعتراض، ثم إنه طيّب وليس وحشاً يا قوم؟ ألا تروْن ابتسامته الجميلة الشبيهة بابتسامة الأطفال الطيّبين؟ ألا ترون ذلك؟!