في الحاجة إلى مؤتمر وطني فلسطيني
كأن افتقار الشعب الفلسطيني لقيادة وطنية واحدة تُعبّر عن مصالحه الحيوية، وتحظى بقبول الأغلبية المنظّمة نخبوياً وشعبياً، أصبح ظاهرةً ملازمةً لمسيرته النضالية. تاريخياً، تتالت المؤتمرات الوطنية منذ بدايات القرن الماضي، وانصبّت كلّها على التصدّي للمشروع الصهيوني الهادف إلى احتلال فلسطين وقتل وتهجير شعبها. وما يلفت النظر أنّ الوحدة الوطنية كانت على الدوام من أهم مشاغل هذه المؤتمرات بمواجهة قيادات متصارعة. ومع ذلك، لم تتمكّن النُخَبُ السياسية من إبراز قيادة موحّدة للشعب الفلسطيني في أخطر مراحل الصراع، وكان هذا أحد أهم مسبّبات النكبة. وتحقّقت الوحدة النسبية الاستثنائية في السبعينيات فقط، في إطار منظّمة التحرير رغم ما شابها من التفرّد والاستئثار الشخصي والفصائلي. لكنّ هذا النجاح تعرّض لتآكل وتراجع، خاصّة بعد اتفاق أوسلو (1993)، بلغ اليوم حدّ نزع صفتها التمثيلية، فقد آلت فعلياً إلى قيادة فردية مزمنة تجاوزت البنية المؤسّسية للمنظمّة وهمّشتها، إضافة إلى استبعاد هذه القيادة المنهجي شخصياتٍ وقوى ومنظمّات وطنية فاعلة، ذات حواضن وثقل شعبي.
لا تنحصر العيوب في الأشخاص، بل في مجمل الأداء والخيارات السياسية أيضاً، التي لم تسفر عن إحراز أي مكاسب وطنية أو وقف لمزيد من القضم والضمّ والاستيطان الإسرائيلي المتواصل. ومع ضغوط الضرورة الجوهرية للوحدة الوطنية شهدنا لقاءات متكررة في عواصم عربية وأجنبية لبلورة توافق سياسيّ يفضي إلى قيادة وطنية تشمل القوى الرئيسية، إلا أنّ الفشل ظلّ النتيجة المتكرّرة لكلّ المحاولات التوحيدية التي بلغت مستوى العبث السياسي على وقع حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل في قطاع غزّة، وهذا ما تجلّى في اجتماع موسكو أخيرا في تكرارٍ لنتائج محاولات سابقة في مكّة المكرمة والجزائر وغيرهما. واليوم، أضحى غياب قيادة فلسطينية كفؤة موحّدة وذات مصداقية أكثر خطورة من أي مرحلة مضتْ، ما سيؤدّي إلى تعميق النكبة الفلسطينية، وربما اقتلاع ملايين الفلسطينيين من وطنهم، ليس في غزّة وحدها، بل في كلّ فلسطين أيضاً، ما يعني إهداراً أبدياً لأهداف الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة والاستقلال.
وإذا كانت المأساة تنطوي على فرصة، فإنّ الإبادة الجماعية التي تتواصل في قطاع غزّة قد أوجدت زخماً عالمياً لا مثيل له في تعاطف متعاظم مع الشعب الفلسطيني، ساخطٍ على عدوّه الصهيوني. وهو زخم وضع القضية الفلسطينية في جدول الاهتمامات الملحّة للسياسات الدولية، وخاصة الغربية. وصار واضحاً أنّ خططاً تتبلور، دولياً وإقليمياً، لفرض تسوية يراد لها أن تنهي الصراع جذرياً، ولم تعد الترتيبات الدولية خافية ومستترة، وهي تشمل أطرافاً عربية وفلسطينية. وملامح التسوية المطروحة دولياً واضحة ولا تتجاوز تأمين مأوى بعنوان مُضلّل هو "حلّ الدولتين"، بينما المطروح عملياً ليس أكثر من ملجأ إنساني بقصد احتواء الصراع والإبقاء على إسرائيل قوّةً طاغيةً مهيمنةً في الإقليم العربي، وحرمان الشعب من حقّه الطبيعي في تقرير مصيره.
لكي يكون للمؤتمر المنشود فاعليته فإنّ من أولى مهامه أن يؤطّر وينظّم قدرات وقوى الشعب الفلسطيني المنتشرة والمبعثرة في شَتّى الدول
هذا التوصيف في حدّ ذاته يعني ويستحثّ ويستوجب إصلاحاً جذرياً للمنظمّة، يشمل رموزها القيادية وخياراتها السياسية، لتكون قادرةً على جني أكبر قدر من المكاسب وتقليل الأضرار المحتملة إلى حدودها الدنيا، ولكي لا نجد أنفسنا أمام مستقبل ملغّم بعقبات تعترض الهدف التاريخي للنضال الوطني متمثّلاً في تفكيك المشروع الصهيوني على أرض فلسطين. الآن مع الأخطار والتحديات ومعها الفرص التي أوجدتها العملية العسكرية النوعية للمقاومة في 7 أكتوبر، فإنّ غياب الإصلاح الجذري يعني تكريس الأخطار وتبديد الفرص. في تشخيص الوضع القائم، تظهر السلطة الفلسطينية وحركتا حماس والجهاد الإسلامي والتيار الإصلاحي أقطابَ القوى الوطنية الرئيسية، من دون إغفال تنظيمات أخرى أصبحت أقلّ مشاركة وتأثيراً في صياغة معادلة الوحدة الوطنية. وعلى ضوء التجربة المتكرّرة، لدى أقطاب الحركة الوطنية قدر من الدافعية أقلّ مما تتطلبه إرادة التوحيد، وحتى التنسيق في شروطه الدنيا. لذا، فإنّ انبثاق قطبٍ وطني جديد لديه هذه الدافعية إلى الوحدة الوطنية يمثّل إضافةً نوعيّةً وضرورة تصبّ في المصلحة الوطنية الأسمى. وهذا لا يعني قطباً وطنياً بديلاً أو منافساً للأقطاب القائمة أو برامجها السياسية، إنما قطباً مشاركاً وفاعلاً باتجاه هدف محدد هو استعادة الدور الوطني القائد والفاعل لمنظمّة التحرير، واستعادة مصداقيتها التمثيلية، مستندة إلى برنامج سياسي يعبّر عن المصالح الحيوية للشعب الفلسطيني.
وإذا كان هدف المؤتمر الوطني المدعوّ إليه في نداء تعاقدت عليه شخصيات وطنية فلسطينية، ووقّعت عليه نخبة متنوّعة، إعادة بناء منظمّة التحرير على أسس وحدوية، فإنّ تشكيل قطب وطني جديد هو في حدّ ذاته إضافة نوعية ضرورية مبررة بواقع القصور الوطني العام، وفشل البنى الوطنية الراهنة في تعبئة قدرات وقوى الشعب الفلسطيني. ولكي يكون للمؤتمر المنشود فاعليته فإنّ من أولى مهامه أن يؤطّر وينظّم قدرات وقوى الشعب الفلسطيني المنتشرة والمبعثرة في شَتّى الدول من دون رابط وتنسيق، وأن يرسم استراتيجية بقاء تسمح بتحقيق انجازات تراكمية في مسار الصراع الذي لا يسمح بنصر حاسم. وهذا يقود بالضرورة إلى أن يبني أساساً متماسكاً يسمح باستدامة مؤسّسية لنشاطه المنهجي.