في الحاجة لحوار الداخل الفلسطيني بعنوان "شعب واحد ..."
بانكماش التنظيمات السياسية الرسمية الممثلة للحركة الوطنية الفلسطينية، منظمة التحرير وجميع فصائلها، وباستقالتها من تاريخٍ يستطيع كتابة أي سطرٍ في كتاب الصراع والتحرّر، يُغلق بابٌ على تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، ويُفتح باب آخر، لا نرى منه حاليا إلا إرادة شعب يتخبط، مصرّا على المضي قدما، إما عبر مراجعاتٍ قاسية، يفتحها بشجاعةٍ متفاوتة الأمل، وبالتالي متفاوتة العزيمة، أو عبر أجيالٍ سيكون دورها الرئيسي أن تُبدع أكثر بكثير من دورها في المراجعة، بوعيٍ كاملٍ بأنها تُكمل المسيرة، مستندةً إلى رصيدٍ من الإصرار والإرادة والتضحيات والنجاحات السابقة.
مرحلة التوسع الحالية للمشروع الاستعماري الإسرائيلي (تفوق على المشروع الاستعماري الصهيوني، حيث تتخذ الدولة العبرية الآن دورا إقليميا وعالميا عنيفا وشرّيرا لم تحلم به الصهيونية)، تشكّل تغيرا نوعيا نستطيع تسميته "انتصارا" (وإنْ كان انتصارا قابلا للرجعة)، لكنه انتصارٌ على أي حال، كونه ينعكس في الاضطرار الفلسطيني لإعادة تأكيد السردية التاريخية، بل وإحيائها وتدعيم مقوّمات شرعيتها، كما أنه ينعكس في الحاجة الفلسطينية لإعادة بلورة المشروع الوطني الفلسطيني على أنقاض تصوّراتٍ سياسيةٍ انهزاميةٍ ومتشرذمة، كما في الحاجة لإخراج "سلطة فلسطينية" من المشهد الفلسطيني، حيث نجح الاحتلال في تحويلها إلى ثورةٍ مضادّة.
هذه جميعها مؤشّرات هزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية (استنتاج ليس جديدا ولا يدّعي المقال ابتكاره، وإن لم يدخل الخطاب السياسي الفلسطيني بعد)، وهي نفسُها مؤشّرات انتصار الإرادة الفلسطينية المصرّة ليس فقط على حقوقها الموضوعة الآن على الطاولة، بل أيضا على التي تم التنازل عنها، من دون موافقتها، ضمن مسار تسوية طويل، وضمن مسار تاريخي حسبه بعضهم خطّيا.
الشكل الوحيد للتمرّد الفلسطيني الآن هو الفلسطيني نفسه، في ما يشبه تأكيدا لفكرة أن موت التنظيمات التقليدية لا يعني "موت الإنسان"
لقد طمأن علماء اجتماع كبار، ونحن في حاجةٍ لتطمينات، أن "نهاية العالم لا تعني نهاية كل العوالم"، ليس فقط بمعنى أن التاريخ لا يموت، حركته وصراعاته، بل أيضا أن ما قد يبدو موت قضيةٍ ما (كثير من القضايا تموت) قد لا يعني موتَها، ولكن تشكّلها بطريقة أخرى، فهي تستطيع أن تحيا، ولكن ضمن نسق (بارادايم) جديد، هذا النسق جديد بمفاهيمه وأشكال هيمناته، لكن والأهم بأشكال تمرّداته. والشكل الوحيد للتمرّد الفلسطيني الآن هو الفلسطيني نفسه، الإنسان العاري من تنظيماته، في ما يشبه تأكيدا لفكرة أن موت التنظيمات التقليدية، وحتى أشكال التفكير والمفاهيم التي اتكأنا عليها وأوصلتنا إلى طريق مسدود، لا تعني "موت الإنسان". لقد رأى ألان تورين في بؤر التمرّدات غير المنظمة ملامح بارادايم جديد في المقاومة والفعل الاجتماعي، لكنه لم يرَ الآلة الإسرائيلية التي تحتاج إلى أجهزة تمرّد، والتي لا يكفيها عدم "موت الإنسان الفلسطيني"، بل تحتاج لتنظيماتٍ وحركاتٍ وحراكاتٍ منظمّة، وإن كانت تختلف عن تلك التي توقفت عن الحياة، وليس فقط عن العطاء الذي ميزها، والتي ستخرج من التاريخ من دون جنازات لائقة للأسف، كما هو شكل الموت الغالب. هذه الحركة الجديدة التي لا نعرف كيف ستتشكل، هي مهمة البارادايم الجديد. وطبيعي أننا لا نستطيع التنبؤ به، ولا فهمه خلال تشكّله، فالفهم يتخلّف دائما عن الواقع، وهو يحتاج على الأقل لواقع متكامل النشأة لكي يفهمه، هذا إذا فعل، فأصعب المراحل على فهم الإنسان هي المراحل الانتقالية، وهي تتطلب منه الفعل، حتى ضمن مناطق الشك واللايقين.
كان التشخيص الفلسطيني يتحدّث دائما عن تشرذمات، بين الداخل والشتات، والضفة الغربية وقطاع غزة أيضا
وبطبيعة الحال، لا تستطيع أي مرحلةٍ أن تعلن هي نفسها انسحابها من التاريخ، من يعلن عن ذلك هي مرحلة أو نسق فكري (بارادايم) يرث مكان السابق، داحرا مفاهيمه، وحاملا مفاهيم جديدة، تستطيع إعطاء معنى شجاع لما يحدث، والمعنى الشجاع هو ذاك الذي يستطيع أن يفهم العالم بطريقةٍ تجعله دائما قادرا على تشخيص مكامن القدرة على التغيير والتمرّد، و"الحكمة شجاعة دائما"، كما قال أحد الأعزاء.
تبدّل "البارادايم" أو النسق واقعيا وفكريا سيصلح عنوانا للمرحلة التاريخية التي يمر بها شعبنا حاليا، فيما الداخل يروي قصة أخرى... وكان التشخيص الفلسطيني يتحدّث دائما عن تشرذمات، بين الداخل والشتات، والضفة الغربية وقطاع غزة أيضا. ولكن ذلك يحتاج الآن تحديدا لنقطتي نظام: الأولى أن الداخل لم يكن مجرّد شرذمةٍ من شرذمات القصة، بل هو كان يروي قصةً أخرى. لقد ربط دائما معايير "وطنيته" و"نضاله" و"هويته" بمفاهيم صنعها وعرفها هو، ولم تخضع يوما لمرجعيةٍ فلسطينيةٍ وطنيةٍ عامة، حتى تضخّمت شعاب مكّة الصغيرة، واستقلت، فتحوّلت إلى جمهورية لا يدخلها أحد ولا يناقشها أحد، مع أن ما كنا حاسمين وواضحين فيه باعتباره مطلبا هو أن يعذرنا شعبنا في ما يتعلق بعمليات المقاومة الفدائية. ومع ذلك، انخرط عشراتٌ من أبناء الداخل في العمل الفدائي، وما زال بعضهم في السجون.
أكثر من ذلك، كان الخطاب الفلسطيني، بعدما فطن إلينا، "متسامحا" معنا (نحن فلسطينيي الداخل المحتل في 1948)، أو ربما يائسا منا أو من وضعنا، إلى درجة أن منظمة التحرير طالبتنا بأن نصبح جزءا من القصة الإسرائيلية، ابتداء من التصويت لأحزاب يسار استيطانية، ومرورا بتصريحات محمود عباس بعدم رفع الأعلام الفلسطينية ضد قانون القومية.
كان الخطاب الفلسطيني، بعدما فطن إلينا، "متسامحا" معنا (نحن فلسطينيي 48)، أو ربما يائسا منا، إلى درجة أن منظمة التحرير طالبتنا بأن نصبح جزءا من القصة الإسرائيلي
أما نقطة النظام الثانية التي نحتاج لتثبيتها ضمن ملامح العلاقة بيننا وبين شعبنا، أو ما تسمّى "خصوصيتنا"، فهي أن العلاقة التقليدية والمتعارف عليها بيننا وبين شعبنا، والتي عنت سياسيا "شعاب مكّة" المحرّمة على أي تعاطٍ سياسي جدّي بيننا وبين شعبنا، بحاجةٍ لمراجعةٍ ضمن المراجعات الجذرية القائمة، وعلى حالة المواطنة التي نعيشها، ألا تتحصّن، كما يجري التوافق عادة، كاستثناء من حوار وطني يحتكم لبوصلة لا يستطيع الداخل أن يحتكرها لنفسه. يعود ذلك لأسباب خمسة:
أن المرحلة التاريخية الحرجة التي يمر بها شعبنا لا تقبل استثناء الداخل. أن شعبنا يرى أن لا خروج من حالة الانهيار الحاصلة إلا عبر مبدأ "شعب واحد، قضية واحدة، وطن واحد"، بالتالي، فإن استثناءنا يعني انهيار هذا المبدأ حتى قبل أن يبدأ. إننا في الداخل نغرق في حالةٍ من الأسرلة، تقودها شخصياتٌ سياسيةٌ، أحدها يروّج غانتس (رئيس "أزرق أبيض")، والآخر نتنياهو (رئيس الليكود والحكومة). ووفق منطق الإثنين، عليهما الآن أن يتفقا على جدعون ساعر (ليكودي ينافس نتنياهو)، الأول لأنه بهذه الطريقة يتخلص من نتنياهو، والثاني لأنه قرّر أن جيب اليمين يستطيع أن يتسع لنا كجيب اليسار، وأن الجيوب في الهواء سواء. بالتالي أضعف أداء القائمة المشتركة قدرة حصار نهج منصور عباس (نائب في الكنيست، نائب رئيس الحركة الإسلامية الإسلامية، الشق الجنوبي)، وقدرة تمييز نفسها عنه، ضمن سياق صراعٍ سياسيٍّ لم يعد، بعد قانون القومية وصفقة القرن، قادرا أن يعطي معنىً لتمايز واضح، إلا ذاك الذي يميز بين مشروع ذاتي للضحية، توضح فيه معنى العدالة التي تسعى إليها وشكل النظام الذي يحقّقه، وبين مشروع مواطنة واضح في جوهره الاستعماري. إن الاستمرار في "البارادايم" القديم، الذي يميز بين التيارات على أساس قومي/ شيوعي/ إسلامي، أو اندماجي/ دولة المواطنين/ رافض للنضال من داخل المؤسسات الإسرائيلية، هو استمرار في عالمٍ لم يعد قائما. قد تستمر هذه التقسيمات، لكنها لن تستطيع فهم فعلنا السياسي، وتحليله وترشيده، باعتباره فعلا يجري ضمن عالم اليوم.
شعبنا الفلسطيني، بأكاديمييه ومثقفيه وحراكه المعترف بالانهيار، والمدرك لضرورة المراجعات، لا يستطيع أن ينظر إلينا وينتظر ما ستسفر عنه نقاشاتنا
ورابع الأسباب أن فكرنا السياسي، حتى ذاك المتحرّر من أزمات حزبية، لا يبدو أنه يتفاعل مع تحدّي المرحلة، وبعضه لا يبدو أنه ينوي، والآخر لا يبدو أنه يستطيع، أن يساند الفعل الحزبي واضح الشلل، في الفكر السياسي الصادر عن نخب سياسية وثقافية وأكاديمية، فتلك الفئات هي "المرشّح" الأقوى لالتقاط اللحظة التاريخية لشعبنا، لحظة التقاطع بين إفصاح إسرائيل عن مشروعها الاستعماري لمواطنيها عبر قانون القومية والوعي الفلسطيني العام (خارج الـ48) بحالة الانهيار وإعادة إحياء مبدأ "شعب واحد، قضية واحدة". أقول على الرغم من أن تلك الأوساط هي المرشّحة "الطبيعية" (ربما الطبيعية وربما لا الحقيقة)، لالتقاط هذه اللحظة التاريخية، إلا أن بعضها يختار أن يرى التاريخ من زاوية منصور عباس، مع أن التاريخ لا يقرأ من القاع فقط، بل أيضا من السماء. وبالتالي يفتقد الداخل حاليا هذا الصوت الأخلاقي القوي، والحاضر في المشهد السياسي، الصوت الذي أنتجه التجمع الوطني الديمقراطي، وعبّرت وثيقة حيفا (العام 2007) عن هيمنته. وقد يكون تراجع بعض المثقفين عن "وثيقته" أن صوت المثقف كغيره، بعضه نتاج هيمنات سياسية، حيث يختار هؤلاء الوقوف مع التيار القومي المتصادم مع الصهيونية، عندما يهيمن الأخير على المشهد، لكنه يختار أيضا أن يقف مع التوصيات المتتالية على غانتس، عندما تتقهقر السياسة، وتتقهقر مكانة المشروع الذاتي للضحية، ويهيمن صوت الهامشية.
أما الأصوات التي ما زالت خارج المناخ السائد، فهي صامتة. أشارت أريج صباغ في مقابلتها "أكاديميون من الداخل يقودون العودة إلى الإطار الكولونيالي"، مع الكاتب سليمان أبو إرشيد، في موقع عرب 48، إليهم، والداخل يحتاج الآن، أكثر من أي وقت، لحضور (وتزايد) قوة هذا الصوت المتحرّر من الأزمات الحزبية، والذي ينبهنا إلى خروجنا من الفعل السياسي الحقيقي، وبأن ما نفعله فاقد الصلة مع طبيعة المرحلة، وأننا ما زلنا نعيش في "بارادايم" يموت، من دون أن يفصح عن ذلك.
السبب الخامس والأخير أن انفصال الداخل عن مبدأ "شعب واحد وقضية واحدة" لا يعني انفصالا فقط، بل سيعني، حتميا، تخريبا لهذه المقولة، فبديل القضية الواحدة في مواجهة إسرائيل الاستعمارية أن يقتنع "المواطنون الفلسطينيون" بحالة المواطنة العادية، وهذا سيكون بمثابة الشاهد غير القابل للطعن، على حقيقة إسرائيل دولة ديمقراطية، وذلك بدل تفعيل دورهم الاستراتيجي كمواطنين يمثلون البرهان الأقوى على استعمارية مواطنتهم.
تفيد هذه القراءة للداخل بأن شعبنا الفلسطيني، بأكاديمييه ومثقفيه وحراكه المعترف بالانهيار والمدرك لضرورة المراجعات، لا يستطيع أن ينظر إلينا وينتظر ما ستسفر عنه نقاشاتنا: تثبيت الحب المريض مع نتنياهو، أو تثبيت الحب المريض مع المركز الإسرائيلي، أم فعلا اتفاق الاثنين على ساعر، الذي يلائم تماما هدفهما. وهنا قد تأتي المصالحة، خارج السياسة، تماما كما الخصام خارجها.
المطلوب حوار وطني فلسطيني مع الداخل، يقرأ الصورة تماما قراءة فلسطينية، ويحتكم لمرجعيات فلسطينية، في مقدمها "شعب واحد، قضية واحدة، وطن واحد"، أما الشعاب فهي لا تصلح أن تكون خريطة، ولا أن تكون بوصلة.