في الصمود والمقاومة
نشأ في قلب حروب الضمّ والاستيطان، وتوسيع دوائر التطبيع والمُطبّعين، وبمحاذاة حالة التراجع العامة والمُخيفة، التي تمرّ منها القضية الفلسطينية، كلّ ما يمكن أن يساعد الحركة الصهيونية على مزيدٍ من الهيمنة والإبادة، من أجل مزيد من ترسيخ كيانها الاستعماري في فلسطين. وطوال قرن، لم تتوقّفْ حروب الاجتثاث والحرق والهدم وبناء الأسوار العالية، وتزوير التاريخ وإشاعة الأساطير. ويعتقد حَمَلَةُ المشروع الصهيوني أنّ الأباطيل التلمودية قابلة للتحقيق والرسوخ، وهم لا يتردّدون في الانخراط في حروب الإبادة، التي تواصلت طوال عقود القرن الماضي. وقد وظّفت مشاريع السلام ومعاهدات التطبيع لمزيد من اختراق ما تبقّى من الأرض، وإشاعة مزايا شرق أوسط جديد، تُمثل فيه دولة الكيان الصهيوني البؤرة الناظمة لأدوار الكيان الوسيط، المُكلّف بحماية المصالح الغربية في المحيط العربي.
لم تتوقّف حركات الصمود والمقاومة عن ممارسة أشكال من المواجهة المستميتة مع الاستعمار الصهيوني، وما خَلَّف من ويلات داخل المجتمع الفلسطيني. ففي قلب مشروع الاحتلال والهيمنة تتواصل إرادة الصمود، كما يتواصل ابتكار طرائق في المقاومة تتيح إمكانية اختراق أنظمة الكيان الصهيوني، في الحراسة والفصل وبناء الأسوار العازلة، وتجتهد في عملية البحث عن مساراتٍ تضع فيها الخيارَ الوطني الفلسطيني، المناضل والمقاوم، في الطريق المُؤدّي إلى التحرير اليوم أو غداً. وحدث "طوفان الأقصى"، المُفجّر اليوم لحرب الإبادة المتواصلة منذ سبعة أشهر، يُقرأ ردَّ فعلٍ على مختلف صور الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، كما يُقرأ نوعاً من المواجهة مع سياسات المُطبّعين وخرائطهم الجديدة، التي تتوخّى إذلال الفلسطينيين ودعم الكيان الصهيوني.
يتبادر إلى ذهن من يفكّر في المقاومة الفلسطينية اليوم، في ضوء واقع الفلسطينيين وفي ضوء الوضع السياسي العربي، سؤالٌ يرتبط بشروط المقاومة ومقتضياتها، ونحن نعتبر أنّ هذا السؤال، وإن كانت له أهمّية في عمليات التقدير القَبْلِي لأفعال السياسة والحرب في التاريخ، فإنّه يظلّ من الأسئلة المُعطّلة لأشكال من المبادرة الصانعة لبعض أحداث التاريخ. ويمكن أن نضيف إلى ذلك سؤالاً آخر، متى كانت أحوال العَرب والفلسطينيين مناسبة ومكافئة، لمواجهة المشروع الغربي الصهيوني وأحلامه التوسّعية؟ نتصوَّر أنّ "طوفان الأقصى"، وضعنا أمام نموذج لأفعال التاريخ القادرة على مُحاصرة الصهيونية وجرائمها في فلسطين وفي المحيط العربي، إنّه يساهم اليوم، في مزيدٍ من إبراز جرائم المشروع الصهيوني وأساليبه في الهيمنة، وكذا صوّر تبعيته للغرب الاستعماري، إضافة إلى فضحه أكاذيب السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان في دولة الكيان الصهيوني، وهي تواصل إحراق غزّة وتحويلها إلى مقبرةٍ جماعيةٍ، بعد أن حاصرت الفلسطينيين ووضعت شبابهم في السجون والأقبية المُظلمة، مُعلنةً أنّها بصدد بناء "صفقة القرن"، "شرق أوسط جديد" تقوده لينعم بالسلام والتنمية (!)
أفعال المقاومة تحمل أوجهاً مُركَّبَة، مثلها في ذلك مثل أفعال الحياة والموت
لم يعد هناك مَفَرٌّ اليوم من توسيع وتنويع دوائر المقاومة الفلسطينية، الخيار الوحيد الممكن لإبراز لا محدوديّة الصمود الفلسطيني. إنّ مواجهة العنف والقتل والهدم والحرق والتجويع والمحاصرة والعزل، وجرائم الحرب كلّها، التي يُعاين العالم ومنظّماته الدولية أطوارها المُرعبة والمُخيفة تدعو إلى ذلك. ويتيح تنويع طرائق المقاومة للفلسطينيين ولكلّ الأحرار في العالم، محاصرة بعض أوجُه الجنون الغربي الصهيوني، وقد يسمح بإمكانية وقف العديد من المخاطر التي أصبحت تهدّد المشرق العربي، وتهدّد العالم أجمع. نُعاين اليوم في الحركة الطلابية العالمية في الغرب الأوروبي وفي الولايات المتّحدة، ما يُبرز ميلاد انتفاضة الجامعات وتبلور حراكٍ طلّابيّ مُتحرّر، يتطلع إلى التخلّص من السردية الصهيونية، ويرفع شعارات تحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني.
ترتَّب على معركة طوفان الأقصى كثير من القتل والخراب، وكثير من الرعب والجنون، من دون أن ننسى الإشارة إلى مكاسب عديدة التي حصلت بسببها. وفي أحداثٍ كثيرة تتواصل اليوم، فوق الأرض المُغتصبة، يمكن أن نعاين نتائج أفعال أخرى في المقاومة من أجل بلوغ أهداف المشروع الوطني الفلسطيني. أفعال المقاومة تحمل أوجهاً مُركَّبَة، مثلها في ذلك مثل أفعال الحياة والموت. وجرائم الكيان الصهيوني في حربه المتواصلة ضدّ الفلسطينيين في غزّة، تتطلّب أكثر من أيّ وقت مضى، توسيع وتنويع وتعميم أشكال المقاومة.
وضعنا "طوفان الأقصى" أمام نموذج لأفعال التاريخ القادرة على مُحاصرة الصهيونية وجرائمها في فلسطين وفي المحيط العربي
يمكن أن نقف على بعض مظاهر هذا التنويع، في حدثيْن رمزييْن حصلا أخيراً في السجون الإسرائيلية؛ حدث إهمال الأسير المناضل وليد دقّة (1961 - 2024)، الذي ظلّ سجيناً رغم انتهاء زمن محكوميته، وقد صدر خبر وفاته يوم السابع من إبريل/ نيسان الماضي، بعد قضائه ما يقرب من 40 سنة في السجن. ظلّ دقّة يواجه الإهانة والإهمال بالكتابة والبحث، ويحلم بملامسة شعر ابنته ميلاد، التي أنجبها بعد تهريب نطفتها وهو في السجن، وكانت قد بلغت أربع سنوات لحظة وفاته. أنهى دقّة تعليمه الجامعي في السجن، ومات بعد أن كتب الرواية والبحث واليوميات، أصدر ثُلاثيّة لليافعين بعناوين: "حكاية سرّ الزيت" و"حكاية سرّ السيف" و"حكاية سرّ الطيف". وأصدر بحثاً بعنوان "صهر الوعي أو في إعادة تعريف التعذيب" (تقديم عزمي بشارة، مركز الجزيرة للدراسات والدار العربية للعلوم، 2010)، وهو دراسة في آليات عمل السجون الإسرائيلية وفي الطرائق التي تستخدمها لممارسة قتل السجناء. كما حرّر "يوميات المقاومة في جنين 2002" (مواطن، المؤسّسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، رام الله، 2004) محاولاً تقديم رواية المُقاتلين من السجناء المُشاركين في معركة المخيّم، بعد لقائه بهم في السجن، ومُركّباً مساهمة حيّة للفلسطيني المُنخرط في المقاومة. وتُعَدّ هذه اليوميات بمثابة شهادة من قلب معركة التحرير. وبجانب القتل والقهر الذي يتعرّض له الفلسطيني في سجون الكيان الصهيوني، ومختلف صور المواجهة التي تحصل يومياً، يصنع سجينٌ آخر شكلاً آخر من أشكال المقاومة، يبدع نصّاً روائياً يؤهّله لنيل الجائزة العالمية للرواية العربية. يتعلق الأمر بالأسير باسم خندقجي، وروايته الفائزة "قناع بلون السماء" (دار الآدب، بيروت، 2023)، وفيها يفكّك واقع العنصرية والإبادة، وتشتبك في قلب أحداثها معطيات التاريخ والأسطورة، وتحلم بالتحرير.
كان الأسير دقّة يؤمن بأنّ الكتابة حرّرته من السجن، ومات مبتسماً مقاوِماً ومنتصراً. ويواصل خندقجي إيمانه بدور الكتابة في المقاومة والتحرير. يحصل هذا في زمن "طوفان الأقصى"، بكلّ ما حمله من جرائم ومن قَهْر، يحصل في قلب المعارك المتواصلة من أجل تحرير فلسطين، ليعزّز الإيمان اليوم بأولوية الصمود والمقاومة.