في العودة إلى اتفاق أوباما النووي
العالم على أبواب التوقيع على إعادة إحياء الاتفاق النووي بنسخة الرئيس الأميركي الأسبق أوباما 2015، الشهر المقبل وفق التوقعات الإيرانية، بعد أن أبدى الطرفان الرئيسيان، طهران وواشنطن، بوساطة الأوروبيين، بعض المرونة، لتجاوز التحفّظات، وإرجاء الخلافات إلى المستقبل، واقتراب التوصل إلى اتفاقٍ مؤقتٍ وواقعي، لكنه هشّ. فمن الممكن لأي طرف فيه الخروج منه في أي وقت، والعودة إلى ما قبل توقيعه، كذلك فإنه لا يلغي التطوّر الذي حققته طهران في اقترابها من امتلاك السلاح النووي، فاتفاق أوباما، بالأصل، لم يكن أكثر من صفقة مبادلةٍ مع الإيرانيين، برفع العقوبات الدولية والأميركية والأوروبية المفروضة على طهران، مقابل عدم تحوّل برنامجها النووي السلمي إلى برنامج عسكري، من دون علم المجتمع الدولي قبل عام من ذلك. ألغى الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، تلك الصفقة في 2018، بذريعة إمكانية التوصل إلى اتفاقٍ أفضل، يكبح القدرات الصاروخية الإيرانية، ويقلّص نفوذ إيران في المنطقة، إرضاءً للحلفاء في إسرائيل والخليج العربي؛ وذلك عبر فرض عقوباتٍ صارمةٍ على إيران، لإجبارها على الرضوخ للشروط الأميركية الجديدة.
يرى الرئيس الأميركي بايدن وناخبوه من الديمقراطيين أن انسحاب ترامب من الاتفاق النووي كان خاطئاً، والتوصل إلى صيغة أفضل من اتفاق أوباما أمر غير واقعي، وتوقيع اتفاق ضعيف أفضل من ترك إيران دولة معزولة ومارقة، والاتفاق سيجبرها على التزام القوانين الدولية، وسيخضع منشآتها النووية لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويوقف طموحاتها النووية في الوقت الحاضر على الأقل؛ خصوصاً أن سلاح العقوبات لم يكن موجعاً بما يكفي لإجبارها على الرضوخ، نظراً إلى حنكتها في الالتفاف على العقوبات. كذلك إنّ الملف النووي الإيراني مهم بالنسبة إلى إدارة بايدن، لكنه ليس في أولويات الأجندة الأميركية، مقارنة بالتركيز على مواجهة الصعود الاقتصادية للصين، وعلى معالجة تبعات الغزو الروسي أوكرانيا، وما سبّبه من أزمة طاقة عالمية، وأزمة اقتصادية داخلية. هذا يجعل بايدن يقبل صيغة اتفاق 2015، صفقة تهدئة مرحلية مع إيران؛ هذه الصيغة أضعف من التي أنجزها أوباما، لأن إيران باتت أكثر قوةً منها في 2015، حيث خصّبت اليورانيوم بدرجاتٍ أعلى وكمياتٍ أكبر، ولا يفصلها عن امتلاك القنبلة النووية سوى بضعة أيام، فقط لو أرادت؛ وتوسّع نفوذها في المنطقة أكثر من ذي قبل، وتغذّي مليشياتها بالصواريخ الدقيقة والمسيّرات المتطوّرة، وهي تهدّد حلفاء واشنطن في إسرائيل وكذلك السعودية والإمارات، وتهدّد القواعد الأميركية نفسها، وناقلات الطاقة في الخليج العربي. يزيد من قوة الموقف الإيراني في المفاوضات تغيّر الظرف الدولي الناجم عن أزمة كورونا، ثم الغزو الروسي لأوكرانيا، وما نجم عنهما من حاجة المجتمع الدولي إلى دخول النفط والغاز الإيرانيين أسواق الطاقة العالمية.
أنتجت الوساطات الأوروبية صيغة قبلها الطرفان، وهي رفض الضمانات التي طلبتها طهران، مقابل الحفاظ على برنامجها النووي مجمّداً
جعل هذا طهران ترفع سقف مطالبها، وتطلب من واشنطن ضماناتٍ "فوق رئاسية"، بألّا ينسحب الرئيس الأميركي القادم من الاتفاق، كما فعل ترامب؛ رفض بايدن متذرعاً بأن الأمر ليس في يده، لكونه يحتاج موافقة ثلثي الكونغرس، وهي غير متوافرة. أنتجت الوساطات الأوروبية صيغة قبلها الطرفان، وهي رفض الضمانات التي طلبتها طهران، مقابل الحفاظ على برنامجها النووي مجمّداً، تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، من دون تدمير البنية التحتية، وبالتالي ستكسب إيران الإفراج عن مائة مليار دولار محتجزة بسبب العقوبات، وضمانات للاستثمارات الأجنبية فيها، من دون المساس بما أنجزته في مشروعها النووي، بحيث يمكن العودة إليه إذا انسحبت واشنطن من الاتفاق مجدّداً. وضع الطرفان جانباً مسألة شطب الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الداعمة للإرهاب، لكن هذا قد لا يعني استمرار العقوبات الاقتصادية على الشركات المرتبطة به؛ فيما ظل الخلاف قائماً بما يتعلق بطلب طهران إغلاق التحقيق الذي تقوم به الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن إشعاعات تعود إلى عام 2003، حتى لا تُسيَّس، وتُستغَلّ في ابتزاز طهران بحجّة خرقها الاتفاق، بينما تريد واشنطن استمرار التحقيق لمراقبة أي نشاط نووي تقوم به طهران.
هذه الصيغة من الاتفاق بين واشنطن وطهران، التي تشترك فيها ثلاث دول أوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) إضافة إلى روسيا والصين، تعني اعتراف المجتمع الدولي، بما فيه إسرائيل، بالقوة النووية العسكرية الإيرانية أمراً واقعاً، والتعاطي معها على هذا الأساس. يريد بايدن إتمام الاتفاق قبل الانتخابات النصفية للكونغرس في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل لتخفيض سعر النفط، وليس في وسعه تقديم مزيد من التنازلات لإيران، لأنها ستعني معارضة الكونغرس المنقسم أصلاً حول الاتفاق، وقد يعطّل توقيعه إذا ما دعم اللوبي الإسرائيلي هذا التوجه. لا تعني معارضة إسرائيل الجذرية للاتفاق عدم الاعتراف بأن إيران باتت متسلحة نووياً؛ هناك اعتبارات انتخابية، لكن الأهم أن رفض إسرائيل الاتفاق يعطيها حق الدفاع عن نفسها، واستمرار عملياتها التخريبية داخل إيران، ضد المنشآت النووية، واصطياد العلماء، واستمرار ضربها القواعد الإيرانية في سورية، وخصوصاً مخازن الأسلحة المتطورة والصواريخ الدقيقة التي تقلقها.
لا يضير واشنطن انتشار المليشيات الموالية لإيران في المنطقة، ولا الأسلحة المتطورة التي تزوّد طهران هذه المليشيات بها
هناك زيارات إسرائيلية مكثفة للولايات المتحدة، لبحث مخاوف تل أبيب من الصواريخ والمسيّرات الإيرانية، وانتشار المليشيات التابعة لإيران التي تستخدم تلك الأسلحة في محيطها (حزب الله في لبنان وسورية وحركتا حماس والجهاد الإسلامي في غزة). تبتزّ إسرائيل الولايات المتحدة في مخاوفها للحصول على مزيد من المساعدات والتسليح، وواشنطن لا تبخل عليها، وهي راضية ومحرّضة للدور التخريبي الإسرائيلي ضد المواقع الإيرانية وفي الداخل الإيراني أيضاً. وكان بايدن، في زيارته إسرائيل في يوليو/ تموز الماضي، قد تعهد بالتزام الحفاظ على أمن إسرائيل، وحقّها في الدفاع عن نفسها.
بالنسبة إلى واشنطن، لا يضيرها انتشار المليشيات الموالية لإيران في المنطقة، ولا الأسلحة المتطورة التي تزوّد طهران هذه المليشيات بها، لأن لتلك المليشيات دوراً طائفياً تخريبياً في المنطقة، يخدم الأجندة الأميركية في تحييد العالم العربي عن التطوّر، وإلهائه بحروب هوياتية طائفية، شرط الحفاظ على حالة توازنٍ تُمسك بها واشنطن. امتلاك طهران السلاح النووي لا يعني إمكانية استخدامه في ظل امتلاك عدة دول عظمى وإقليمية هذا السلاح، لكن له قوة رمزية في اعتبار إيران دولةً يُحسب لها حساب في المنطقة، وهي تجيد استغلال هذه الورقة في الحصول على متنفّس لاقتصادها المتهالك، عبر إزالة العقوبات، إذا وُقِّع الاتفاق، مع ضمان العودة إلى برنامجها النووي، من حيث توقف، في أي وقت.