في انقسام الشارع السوداني
منذ محاولة الانقلاب الفاشلة التي أعلنت عنها السلطات السودانية، في 21 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول الماضي)، دخلت العلاقة بين شريكي الحكم في السودان، المكونين، العسكري والمدني، حالة من التأزّم، أدخلت البلد في أكبر أزمة سياسية في مرحلته الانتقالية، ومما زاد من هذه الحالة الأوضاع المتفاقمة شرق السودان التي بدأت آثارها تنعكس على كل البلاد، إلى جانب الخلافات التي طفت على السطح بين أطراف المكون المدني الذي شهد انشقاق ما يسمّى "تحالف الميثاق الوطني" عن "تحالف قوى الحرية والتغيير"، واعتصامهم أمام القصر الرئاسي للمطالبة بحلّ الحكومة الحالية، وتوسيع دائرة المشاركة في السلطة، في تماهٍ واضحٍ وصريح مع مطالب المكوّن العسكري الذي يبدو أنه المستفيد الأول من إدارة هذه الأحداث وتوظيفها، والتي أدخلت السودان في حلقة ضيقة باتجاه الانقسام في الشارع السياسي.
وفق هذه الإرهاصات، يبدو أن مستقبل الأزمة السودانية في طريقه إلى مزيد من التأزم والتعقيد، خصوصا بعد دعوة قوى عديدة مشاركة في "تحالف قوى الحرية والتغيير" إلى مظاهرة مليونية في 21 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، رداً على تظاهرة "تحالف الميثاق الوطني" واعتصامه، الأمر الذي قد يضع السودان أمام واقع سياسي وأمني جديد (شارع مقابل شارع)، يشي بالعودة إلى نقطة الصفر لحسم الصراع وعلاج الانسداد السياسي.
تناغم بين مطالب القوى المنشقّة عن "تحالف قوى الحرية والتغيير" والمكوّن العسكري في مجلس السيادة الانتقالي، يدلل على محاولة إيجاد واقع سياسي جديد
هناك تناغم واضح وتطابق شبه كامل بين مطالب القوى المنشقّة عن "تحالف قوى الحرية والتغيير" والمكوّن العسكري في مجلس السيادة الانتقالي، يدلل على محاولة هذين الطرفين إيجاد واقع سياسي جديد يُبنى عليه مستقبل العملية السياسية في الأيام المقبلة، سيما مع اقتراب موعد الإعلان عن تشكيل المجلس التشريعي، فمطالبات "تحالف الميثاق الوطني" المنشقّ عن "تحالف قوى الحرية والتغيير" في إسقاط الحكومة الانتقالية التي يقودها عبدالله حمدوك وتوسيع القاعدة السياسية للسلطة تهدف، في المقام الأول، إلى تقليص وجود "تحالف قوى الحرية والتغيير"، سواء داخل المجلس الانتقالي، أو حتى داخل الحكومة من خلال الدفع بأطراف أخرى داخل المجلس وداخل الحكومة مؤيدة للمكون العسكري، تجعل من قرارات المجلسين فيما يتعلق بالتشريعات وتكوين البرلمان الغلبة فيه للمكوّن العسكري، وليس لـ "تحالف قوى الحرية والتغيير"، سيما وأن الوثيقة الدستورية نصّت على تشكيل المجلس التشريعي من ثلاثمائة مقعد توزّع مقاعده بواقع 165 مقعداً لقوى "الحرية والتغيير" بنسبة 55%، و75 مقعداً للحركات الموقعة على اتفاق السلام بين الحكومة والحركات المسلحة بنسبة 25%، و60 مقعداً للقوى الثورية الأخرى التي لم توقّع على إعلان الحرية والتغيير بالتشاور بين قوى التغيير والمكون العسكري بنسبة 20%. ويتقاطع هذا الهدف تماماً مع هدف المكوّن العسكري في مجلس السيادة الانتقالي الذي يدفع بقوة لإقصاء "تحالف قوى الحرية والتغيير"، من خلال إعادة رسم خريطة المشهد السياسي الخاص بالمكون المدني في مجلس السيادة الانتقالي، لإيجاد حاضنة جديدة ومرجعية سياسية بديلة له، تكون موالية للعسكر، وتتيح له إحكام القبضة على السلطة في البلاد.
كما أنّ ما يحدث في شرق السودان، في ظل تواطؤ واضح من المكون العسكري، لا يمكن فصله عن محاولات خنق الحكومة المدنية، وإظهارها طرفا معرقلا للمرحلة الانتقالية، بسبب عدم قدرتها على التعامل مع الصعوبات الاقتصادية والمعيشية، فالمكوّن العسكري يحاول، من خلال دعمه هذه المشكلات الأمنية والانقلابات العسكرية الفاشلة والاحتجاجات الشعبية في الشرق، إضعاف المكوّن المدني بمحاصرة الجهاز التنفيذي، وإيجاد تيار مضاد له، يطالب باستلام العسكر سدّة الحكم.
يتخوّف المكوّن العسكري من تقديم العسكريين الذين شاركوا في فض اعتصام عام 2019 في السودان إلى المحاكم لمحاسبتهم على قتل المتظاهرين
وتنبع مساعي المكوّن العسكري لتحقيق الهدف السابق من مخاوف حقيقية تعاظمت مع اقتراب موعد انتهاء رئاسة المكوّن العسكري مجلس السيادة الانتقالي لصالح المكوّن المدني، عملاً ببنود وثيقة الإعلان الدستوري، وهذا يجعل العسكر غير مرتاحين تماماً من هذا الأمر لأسبابٍ كثيرة، ربما أهمها ما قد يترتب على هذا الأمر في حال تحقّق، من تسليم الرئيس السوداني السابق، عمر البشير، إلى المحكمة الجنائية الدولية للمثول أمامها بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور، الأمر الذي قد يجرّ كثيرين من القادة العسكريين الذين يشاركون الآن في قيادة البلاد إلى المحكمة نفسها والتهم نفسها، كونهم شاركوا في جرائم الحرب في دارفور. إلى جانب ذلك، يتخوّف المكوّن العسكري، في حال استلام المكون المدني رئاسة مجلس السيادة الانتقالي، من تقديم العسكريين الذين شاركوا في فض اعتصام عام 2019 في السودان إلى المحاكم لمحاسبتهم على قتل المتظاهرين واستخدام القوة المفرطة، خصوصا أن التحقيقات في القضية وصلت إلى مراحل مهمّة، كشفت تورّط كبار العسكريين في تلك الجريمة.
في المحصلة، لم يعد المشهد السياسي السوداني في ظل تعقيدات الأوضاع وتشابكها وتسارعها واضحاً بالقدر الذي يسمح لأي مراقب بتحديد السيناريوهات أو الخطوات المقبلة، إلا أنه يمكن الجزم أن استمرار الوضع الراهن بات مستحيلاً، لذا لا بدّ من توافق بين شركاء الحكم على مرحلة جديدة عنوانها الأساسي "التوافق الوطني" تحسم مسألة انتقال السلطة من العسكريين إلى المدنيين، وتشكيل المجلس التشريعي والمفوضيات التي نصّت عليها الوثيقة الدستورية، وإلا فإن ّالسودان سينزلق إلى نزاع أوسع لا أحد يعرف مداه ونتائجه، في ظل وجود ثمانية جيوش وتدفقات هائلة من السلاح ونزعات انفصالية وتصدّعات إثنية وجهوية ومناطقية.