في بطن الحوت

31 ديسمبر 2014
+ الخط -

تردّدت قليلاً، قبل قبول ركوب سيارة الأجرة التي توقفت لي، أمام مركز شرطة "العباس"، في مدينة غزة، فالسيارة القديمة مهترئة وصغيرة، ومكتظة بالركاب، ولم يتبق فيها مكان سوى لشخص، إلا أنني قررت الركوب، نظراً لاستعجالي. لكن القدر أراد لهذه السيارة "البالية" أن تكون سبب نجاتي من موت محقق، فما هي إلا دقائق، وأمتار قليلة، عبرتها السيارة في شارع عمر المختار (أكبر شوارع المدينة)، حتى دوت في الأرجاء أصوات انفجارات هائلة، ومتتابعة، مخلّفة سحب دخان اسودّ منها وجه السماء.
كان هذا قرابة الساعة 11 من صباح السبت 27 ديسمبر/كانون الأول 2008، وهو اليوم الأول للحرب الأولى التي شنتها إسرائيل على غزة، وتمر، في هذا الأسبوع، ذكراها السادسة.
سرعان ما علمنا أن ما جرى كان هجوماً إسرائيليا كاسحاً، طال كل مراكز الشرطة التي تديرها حركة حماس، ومنها مركز شرطة العباس الذي كنت أقف على بابه. وعلمت لاحقاً أن كل من كان فيه، وأمامه، قضوا نحبهم.
قررت تغيير مسار رحلتي، وتوجهت مسرعاً نحو مستشفى الشفاء، ومنها إلى "المشرحة". هناك، رأيت أعجب وأبشع مشهد في حياتي، حيث افترشت عشرات الجثث، غالبيتهم من أفراد الشرطة، الأرض المحيطة بالمشرحة، لعدم مقدرة الثلاجات على استيعابهم.
ذهبت لأطمئن على أهلي. وهناك، مرت بنا جنازة شاب مسجّى على نعش، من دون غطاء. فسألت شقيقي عن هوية الشهيد، فأجاب مستغرباً: "ألم تعرفه؟ إنه جارنا محمد حبوش". وبحكم عملي صحافياً، كنت أحرص على أن أكون موجوداً دائماً في مستشفى الشفاء، ولا أبالغ إذا قلت إنه كان يستقبل، كل 15 دقيقة، حالات ينفطر لها قلب الحجر. على الأرض أشلاء لطفل، وامرأة قتيلة، وشاب لفظ أنفاسه الأخيرة، فيما هذه عائلة كاملة قضت نحبها، وحولها شبان يحاولون، عبثاً، منع امرأة من الصراخ والنحيب، حزناً على فقد أولادها الثلاثة.
وحينما يأتي الليل، تزداد المأساة، ويتصاعد الخوف والقلق، حيث يتضاعف عدد الغارات، ويزداد ضجيج الطائرات، فتتجمع العائلات في شقة واحدة، ربما لكي يشد أفرادها أزر بعضهم؛ أو كما يُقال (الموت مع الجماعة رحمة)، وتنام النساء والأطفال في غرفة، والرجال في غرفة، وسط البرد الشديد، حيث يُحظر إغلاق الشبابيك والأبواب، حتى لا تتحطم بسبب ضغط الهواء الناجم عن الانفجارات.
وما أن ينبلج فجر اليوم التالي، حتى يتنفس الناس الصعداء، كأنهم غير مصدقين أنهم ما زالوا على قيد الحياة. كان الليل، في تلك الأيام، مفزعاً بحق. وربما أجاد جارنا، أبوسهيل، في وصفه، حيث كان يردد، وهو يتجول في الحارة، مع اقتراب الظلام: "جاء الغول.. جاء الغول".
مشاهد كثيرة مؤلمة تأبى أن تفارق الذاكرة، ومنها مروري بجنازةٍ لا يشيّعها سوى أربعة أفراد، هم من يحملونها على أكتافهم، فأجواء القتل والموت العاصفة شغلت الناس عن مشاركة بعضهم أحزانهم.
كما أذكر معاينتي جنازة من رجل واحد فقط. كان هذا في آخر أيام الحرب، حيث رأيت رجلاً يحمل جثة طفل، ودخل به المسجد، طالباً من الإمام أن يؤدي عليه صلاة الجنازة، ثم حمله ورحل.
ولعل أبلغ مثال يصوّر مأساة تلك الحرب، قصة السيدة أم إبراهيم العُر، والتي قتل جيش الاحتلال أطفالها الخمسة، وزوجها وكنّتها (زوجة ابنها)، واضطرت إلى البقاء مع جثثهم، أياماً، ثم أقدم الاحتلال على طردها وتجريف المنزل، ودفن أولادها في حفرة كبيرة أمام ناظريها.
كانت أياماً عصيبة، ابتلع فيها الحوت مدينة غزة، كما قال الأديب المرحوم ناهض الريس في كتابه "في بطن الحوت"، والذي حاول فيه توثيق أحداث الحرب. ولعل الحسنة الوحيدة لتلك الحرب أنها منحتنا بعض "القوة"، وربما "البلادة"، لتحمّل بعض من ويلات "الحروب القادمة".

EE1D3290-7345-4F9B-AA93-6D99CB8315DD
ياسر البنا

كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في قطاع غزة