في تداعيات الحرب بين غزّة ولبنان
من المرجّح أن يكون التصعيد العسكري الإسرائيلي على جبهة الشمال الفلسطيني قد بدأ في أثناء قراءة هذا المقال، أو يكاد، كما هو حال ردّ حزب الله على الرد. ولعلّ كرة الثلج بدأت تتدحرج، وقد تجرف في طريقها جهود الوسطاء لمنع اتساع الحرب، وإعادتها إلى قواعد الاشتباك الحالية، حيث تصبح الجبهة اللبنانية الجبهة الرئيسة، في حين تستمرّ حرب الإبادة في غزّة بوتيرة أقلّ من السابق، وقد تُنذر بحربٍ إقليمية سيكون لها نتائجها وتداعياتها على الحرب كلها، فتتغيّر بذلك مساراتها المندلعة في جبهتَي غزّة وجنوب لبنان واتجاهاتها، أو تُنذر بتوسّعها لتتحوّل إلى حربٍ إقليميةٍ، سيكون لها نتائجها وتداعياتها.
في قطاع غزّة، ثمّة جبهة مشتعلة تكاد أن تدخل شهرها العاشر، وثمّة جبهات إسناد لها، أبرزها جبهة جنوب لبنان في الشمال، وجبهة اليمن التي أغلقت البحر الأحمر أمام السفن المتّجهة إلى إيلات. ومنذ الأسبوع الأول للحرب، بدأت الأصوات الداعية إلى شنّ حربٍ على جبهتين في غزّة ولبنان معاً تتعالى داخل الكيان الصهيوني. وكان وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، في طليعة من تبنّوا هذا الطرح، مؤمناً بقدرة الجيش الإسرائيلي على خوض الحرب على أكثر من جبهة في وقت واحد، إلا أن غريزة الثأر والانتقام والرغبة في تدمير غزّة أولاً، والضغط الأميركي، المرافق للدعم الكامل للحرب والمشاركة الفعلية فيها، دفع باتجاه تأجيل هذا القرار. وقد أدّى ذلك إلى تولد قناعة لدى طبقة من النخب السياسية، إسرائيلية كانت أو عربية، أن الجيش الإسرائيلي غير قادرٍ على خوض حرب على أكثر من جبهة في وقت واحد، وأن عليه أن يوقف الحرب في غزّة كي يتمكن من نقل لهيبها إلى لبنان، في ظل التطوّر اللافت في القدرات القتالية والصاروخية لدى حزب الله الذي يقدّر خبراء أنه سيكون قادراً على إطلاق أكثر من أربعة آلاف صاروخ ومسيّرة يوميّاً، أكثر من نصفها يمكنه تجاوز منظومات القبّة الحديدية والدفاع الجوي، ويغطّي مناطق واسعة داخل الكيان الصهيوني، مع امتلاكها قدرات تدميرية مرتفعة، قياساً بالصواريخ التي تملكها المقاومة في غزّة، الأمر الذي سيُربك جبهة العدو الداخلية، ويحمّلها خسائر كبيرة، وهي الخاصرة الرخوة في جسد العدو، التي ظهر ضعف قدرته على حمايتها، كما اتّضح سابقاً في الرد الإيراني وصاروخ يافا اليمني. ولعل هذا، إضافة إلى عدم نجاح الجيش الإسرائيلي في إنجاز حسم سريع للمعركة على جبهة غزّة، والرغبة الأميركية - الغربية في عدم توسيع الحرب نحو جبهات أخرى، ساهم في تردّد القيادة السياسية الإسرائيلية في فتح جبهة لبنان، كما أدّى إلى تقدير موقف بصعوبة إقدام العدو على عملية واسعة على جبهة المقاومة، في ظل نجاحها بوضع قواعد اشتباك حافظ عليها الطرفان معظم الوقت، ومنعت اتساع المواجهة.
دخلت الحرب على جبهة غزّة مرحلة جديدة في شهرها العاشر، تُسمّى المرحلة الثالثة من الحرب، وهي مرحلة ستطول، ستظهر فيها قدرة المقاومة على الصمود واستنزاف الجيش الإسرائيلي يوميّاً، وسنشهد خلالها عمليات كرٍّ وفر، وتمكّن المقاومة من إعادة تنظيم صفوفها بعد العمليات العسكرية الإسرائيلية، كما ستستمرّ جهود العدو لجعل غزّة غير قابلة للحياة البشرية، مستخدماً ذلك للضغط على المقاومة.
أن يطلق العدو عملية عسكرية باتجاه الجنوب اللبناني بات أمراً محسوماً، ولديه القدرة على ذلك، على الرغم من الخسائر الكبيرة المتوقّعة في صفوفه وفي جبهته الداخلية
من جهة أخرى، يقيم العدو نقاطاً ثابتة، ويسيطر على عدة محاور، مثل نتساريم وصلاح الدين، كما يؤسّس لحزام عازل بين غزّة والمستوطنات، ويلجأ إلى استخدام المسيّرات وسلاح الجو، وتنفيذ عمليات مستدامة لملاحقة خلايا المقاومة ومواقع تمركزها، والحيلولة دون إعادة تنظيم صفوفها، معتمداً على المعلومات الاستخبارية، واستمرار مشاغلتها، وإرهاقها عبر الضغط على بيئتها الحاضنة. مثل هذه الإجراءات العملياتية ستمكّن العدو من تقليص حجم قواته العاملة في القطاع، ما يمكّنه من نقل هذه القوات إلى جبهات أخرى، علماً أن أسلحة الجو والمدفعية والصواريخ والمسيّرات لم تتضرّر في فترة الحرب، وما يزال العدو يملك تفوقاً نوعيّاً لافتاً فيها، وهذا يثير شهية قادته باتجاه توسيع الحرب على جبهة الشمال، حيث تتبدّل الأدوار فتصبح هذه الجبهة هي الجبهة الرئيسة، وتتحوّل غزّة إلى جبهة ثانوية، مع استمرار حرب الإبادة الجماعية فيها، باستخدام سلاح الجو والمسيّرات وعدد أقلّ من الوحدات البرّية، مع إمكانية زجّ وحدات أكثر إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
أن يطلق العدو عملية عسكرية باتجاه الجنوب اللبناني بات أمراً محسوماً، ولديه القدرة على ذلك، على الرغم من الخسائر الكبيرة المتوقّعة في صفوفه وفي جبهته الداخلية. والمجتمع الإسرائيلي موحّد بشكل كبير بشأن الحرب في الشمال، كما هو موحّد بشأن حرب الإبادة الجماعية في غزّة، بل لعلنا نلاحظ أن تطرّف نتنياهو في أثناء زيارته الولايات المتحدة جعله يتقدّم في استطلاعات الرأي، والخلافات التي تنهش المجتمع الإسرائيلي وتتأجّج بين المؤسّسة الأمنية والقيادة السياسية لا تمسّ جوهر الحرب بقدر ما تختلف على أسلوب إدارتها. لذا لا يجوز أن يتملكنا الوهم بشأن عدم توجّه العدو نحو توسيع الحرب في الشمال، بسبب خاصرته الرخوة أو قدرات المقاومة المتنامية.
تبدأ الحرب بشرارة، ولدينا ما هو أكثر منها، لدينا حرائق مشتعلة، ونيات مبيّتة، وخطط واستراتيجيات معدّة، ورغبة إسرائيلية في تغيير الواقع اللبناني ورسم معادلات داخلية جديدة فيه
الحرب مع حزب الله قرار استراتيجي لدى الجيش الإسرائيلي، وثمّة اعتقادُ بأن تأخيرها سيعزّز قدرات الحزب القتالية، وأن أفضل وقت لشنّ الحرب هو الحالي، في ظل حالة التعبئة العامة التي تسود الكيان الصهيوني، وصعوبة وقف هذه الحرب ومن ثم إشعال حرب جديدة بعد فترة وجيزة. والأسئلة تدور حول الكيفية التي ستكون عليها هذه الحرب، وإذا كان الاحتلال سيكتفي في هذه المرحلة بضربات انتقامية ينفّذها سلاح الجو ضد البنية التحتية للمقاومة، ومحاولة اغتيال قياداتها، مع توسيعها قليلًا لتشمل ضرب أهداف اقتصادية في لبنان، لتأجيج الضغط الداخلي ضد الحزب وإضعافه، ودفعه إلى تقديم تنازلاتٍ تتعلق بوقف حرب الإسناد التي يخوضها. هذا الاحتمال بتصعيد محدود يحتاج إلى ردّ فعل متوازن من الحزب أيضاً، حيث لا يتجاوز حدود الضربات الإسرائيلية، والاستعداد للعودة إلى قواعد الاشتباك السابقة، بانتظار التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزّة. وهو سيناريو لا يخلو من مخاطر، ويصعب التنبؤ بالفعل وردّ الفعل فيه، واللحظة التي ستتحول إلى حرب شاملة.
تبدأ الحرب بشرارة، ولدينا ما هو أكثر منها، لدينا حرائق مشتعلة، ونيات مبيّتة، وخطط واستراتيجيات معدّة، ورغبة إسرائيلية في تغيير الواقع اللبناني ورسم معادلات داخلية جديدة فيه، وفي مقدّمة ذلك تدمير قدرات المقاومة، وإبعاد خطرها، وإعادة رسم المشهد الإقليمي برمته. يحتاج الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب إلى مساندة قوية من الولايات المتحدة التي تزوّد الجيش الإسرائيلي بـ 96% من احتياجاته من الأسلحة والذخائر، كما يحتاج دعمها ومشاركتها الفعلية في إسقاط صواريخ المقاومة ومسيّراتها. ولا يمكن المراهنة على استمرار الموقف الأميركي الذي أعلن رفضه توسيع الحرب، وفي الوقت ذاته، دعمه ما سمّاه حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. لذا، قد يبدأ الجيش الإسرائيلي عمليته من دون الحصول على غطاء أميركي كامل، أو تحت ذريعة تنفيذ عملية محدودة، ما تلبث أن تتّسع تدريجيّاً لتتحوّل إلى حرب شاملة، مثلما حدث تماماً في حرب 1982، حين لجأ أرئيل شارون إلى توسيع نطاق الحرب من 40 كم (هدفها المعلن وقتئذٍ)، إلى الوصول إلى بيروت. ولعلّ موقف الولايات المتحدة، منذ بداية حرب الإبادة الجماعية في غزّة، وعجزها عن وقف هذه الحرب، والوصول إلى وقف إطلاق النار، أو تأمين المساعدات الغذائية والصحية والإنسانية للشعب الفلسطيني في غزّة، يوضح بجلاء عدم إمكانية المراهنة على موقف أميركي حازم، وسهولة تورّط الولايات المتحدة في دعم هذه الحرب وتأييدها، بعيداً عن بعض الجمل الدبلوماسية التي تطلقها بين حين وآخر.