في تذكّر أبو جهاد .. ومع "رفقة عمر"
تصادف اليوم الذكرى 34 لاغتيال إسرائيل المناضل الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد)، الذي تصفه زوجته انتصار الوزير (أم جهاد) في كتاب مذكّراتها "رفقة عمر .." (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2022)، بأنه "عاش المعاناة مع أبناء شعبه، من اللجوء إلى المطاردة والسجن والشتات والحرب والاستهداف والاغتيال"، ورفض الوقوف "على الهامش بينما وطنه يغتصب وشعبه يجرد من حريته"، "وهو الذي تعاهد بالدم مع رفيق دربه أبو عمّار على شاطئ البحر، وفجرا الثورة الفلسطينية المعاصرة، وبقيا رفيقي درب حتى النهاية". وتأتي الذكرى فيما تزجّ إسرائيل جيشها وأجهزة استخباراتها وقوات أمنها ومستوطنيها، في مواصلة إرهاب الدولة الذي يسم تاريخها، وتمارسه بوصفه رخصة اقتراف جرائم القتل والاغتيال على أساس عنصري، وبوصفه سلاحاً يضاف إلى ترسانتها من الأسلحة المختلفة التي تستخدمها إسرائيل لطرد الفلسطينيين من بلادهم.
تروي أم جهاد أنها، بعد أعوام من التردّد، قرّرت نشر مذكّراتها بعدما تلقت تشجيعاً "من الأبناء والأهل والإخوة الحريصين على توثيق تاريخ الثورة" الفلسطينية، فقرّرت تجميع ما كتبته خلال أعوام ماضية واستكماله ثم نشره في كتاب، على الرغم من علمها بأنه "ليس من السهل عليها" أن تختزل مسيرة حياتها مع زوجها، المليئة بالتفاصيل الحلوة والمرّة والقاسية، في عدد من الصفحات. ولا شك في أن أقسى اللحظات التي عاشتها انتصار الوزير وأصعبها كانت في ليلة اغتيال قوة إسرائيلية خاصة أبو جهاد، 16 إبريل/ نيسان 1988، حيث كانت تصرخ "فردان .. فردان"، متذكّرة ليلة اغتيال القادة كمال عدوان وأبو يوسف النجّار وكمال ناصر في بيروت عام 1973، ثم تروي بحرقة مرّة تفاصيل دخول القتلة الإسرائيليين إلى منزلهما في تونس، وتنفيذهم عملية الاغتيال بوحشية بالغة، حيث تناوبوا على إطلاق الرصاص على جسد زوجها حتى بعد وفاته، وعندما ركضت نحو شرفة المنزل لطلب النجدة، لم تعثر على أحد، ولم يتحرّك أحد.
تبدأ انتصار الوزير مذكراتها بالحديث عن الرحلة التي رافقت فيها والدتها إلى مدينة الرملة في صيف عام 1946، وكان عمرها لا يتجاوز الخمس سنوات، وقابلت خلالها للمرّة الأولى ابن عمها خليل الوزير (أو جهاد)، الذي سيصبح أحد أبرز مؤسسي حركة التحرير الفلسطينية، المعروفة باسم حركة فتح، و"الرجل الأول والأخير" في حياتها.
تتناول المذكرات مرحلة تاريخية مديدة عاشها الشعب الفلسطيني، وحافلة بأحداث ومواقف وتفاصيل يمتزج فيها الثوري بالإنساني
ووفق الغاية المرجوّة منها، تتداخل في مذكّرات انتصار الوزير محطّات من حياتها وحياة زوجها، فضلاً عما يتقاطع معهما من أحداث ومحطات ومواقف تتعلق بشخصيات أخرى، إلى جانب تدوين روايتها عن حوادث عديدة، شهدتها أو عايشتها خلال مسيرتهما النضالية معاً في العمل السياسي والعسكري الفلسطيني، حيث ركّزت على الكيفية التي تمكّنت خلالها من المواءمة بين دورها أما لخمسة أبناء وزوجة ومناضلة، وعلى تجربتها النضالية من خلال انخراطها المبكر في حركة فتح، ثم أصبحت عضو المجلس الوطني الفلسطيني منذ العام 1973، وأمينة سر الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية 1980- 1985، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح بين 1989 و2009، فضلاً عن انتخابها لعضوية المجلس التشريعي الفلسطيني الأول في 1996، والثاني في 2006، وشغلت منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية عشر سنوات من 1994 إلى 2004.
منذ الصفحات الأولى لمذكّراتها، نقف على أن الغاية منها ليست كتابة فصول من حياتها في وقائعها وهمومها واهتماماتها الشخصية البحتة، بالرغم من أنها انتقت بعضاً منها وبعناية فائقة وعن قصد، وربما لضرورة ما ولاعتبارات معينة، حيث نجد أنها ربطت فضاء حياتها الشخصية والزوجية في محطاتها واهتماماتها وآمالها، بشكل وثيق، بفضاءات المجتمع الفلسطيني، بدءاً من فضاء بيت عمها إبراهيم الوزير والد زوجها خليل، والأسر القريبة من أسرتها، ووصولاً إلى وقائع الأحداث والفعاليات النضالية، ومروراً بكل التحولات الاجتماعية والسياسية للقضية الفلسطينية، وتطوّرات الفضاء السياسي الخاص والمرتبط بها على مختلف المستويات السياسية والاجتماعية.
تتناول المذكرات مرحلة تاريخية مديدة عاشها الشعب الفلسطيني، وحافلة بأحداث ومواقف وتفاصيل يمتزج فيها الثوري بالإنساني، مع رغبة في التعبير عن الذات ومكنوناتها. ولكن يبدو أن الهدف الأساس الذي أرادته انتصار الوزير من كتابة مذكّراتها يتمحور حول تسليط الضوء على رحلة حياتها مع زوجها ورفيق دربها خليل الوزير، إذ ستروي تفاصيل عن اللقاءات التي جمعتهما معاً في غزة، بعدما اضطرّت عائلته إلى النزوح إليها إثر نكبة 1948، وانخراطهما معاً في العمل الفلسطيني الميداني، وتشكيل مجموعات مقاومة في قطاع غزة خلال سنوات الدراسة الإعدادية والثانوية، وساهمت جميعها في نشوء علاقة حبّ بينهما، أثمرت مراسلات عاطفية ونضالية بينهما، وتكلّلت بالزواج في 19 يوليو/ تموز 1962، ثم سافرا معاً إلى الكويت، وكان ياسر عرفات في استقبالهما أمام سلّم الطائرة في مطار الكويت.
تتداخل في مذكّرات انتصار الوزير محطّات من حياتها وحياة زوجها، فضلاً عما يتقاطع معهما من أحداث ومحطات ومواقف تتعلق بشخصيات أخرى
وتحضر في المذكرات محطات ومواقف عديدة عايشتها مع زوجها خلال رحلات التنقل العديدة ما بين القدس ونابلس وأريحا وبيروت وعمّان والقاهرة والرياض، وزيارات القرى والبلدات والمخيمات الفلسطينية، ثم الانتقال إلى الكويت والعودة مجدداً إلى قطاع غزة، والالتحاق بأبو جهاد في الجزائر، والعمل في التدريس في إحدى مدارسها، وتأسيس مكتب فلسطين في العاصمة الجزائرية الذي استطاع "أن ينسج علاقات متينة مع قيادة حزب جبهة التحرير الجزائرية وكوادر الحزب، وكانت رؤية خليل أن تكون الجزائر هي القاعدة الصلبة لانطلاقة حركة فتح". غير أن تعيين أحمد الشقيري رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية في ذلك الوقت أفضى إلى ترك خليل الوزير المكتب في الجزائر، ثم مع الإعلان عن الانطلاقة الرسمية لحركة فتح في الأول من يناير/ كانون الثاني 1965، غادر أبو جهاد مع أم جهاد الجزائر في 21 مارس/ آذار من العام نفسه، واتجها إلى بيروت لمواصلة "رحلة الكفاح والثورة"، ولكي يكونا أقرب "إلى مركز الحدث، والفعل الثوري".
وتروي أم جهاد أنه خلال الإقامة في بيروت، كان أبو جهاد "يذهب إلى دمشق ليتابع العمليات العسكرية، ويعود إلى بيروت ليقضي معنا يومين، يتابع خلالهما لقاءاته مع الشباب، والقادمين من الخارج، ومسؤولي المجموعات، ويزور رؤساء تحرير صحف النهار والحياة والمحرر، ويُعدّ مقالات سياسية يحاول نشرها ولا يجد تجاوباً، وقد دفعه هذا الأمر إلى اتخاذ قرار في قيادة قوات العاصفة أن يصدر نشرة تحت اسم العاصفة، وهكذا بدأ يعدّها ويصدرها". ولم تدم إقامة عائلة أبو جهاد طويلاً في بيروت، إذ بعدما شاركت أم جهاد في المؤتمر الأول للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في القدس، عادت إلى بيروت، لكن أم جهاد فوجئت بأن أبو عمار طلب منها في 2 سبتمبر/ أيلول 1965 المغادرة فوراً والذهاب إلى دمشق، لأن القيادة قرّرت إخراجها من الأراضي اللبنانية ونقلها إلى سورية بسبب الخوف من اعتقالها، على أثر اعتقال السلطات اللبنانية أحمد الأطرش، أحد قادة "فتح"، وعندما استقرّت في دمشق تفرّغت للعمل الحركي في صفوف حركة فتح، وأسّست أول خلية نسوية للحركة هناك.
الهدف الأساس الذي أرادته انتصار الوزير من كتابة مذكّراتها تسليط الضوء على رحلة حياتها مع زوجها ورفيق دربها
وتروي أم جهاد أن أول خلاف وقع "بين فتح والاستخبارات العسكرية السورية، عندما وُجهت إلى أبو عمار تهمة نسف خط (التابلاين) الذي يصل خزانات (آرامكو) في السعودية بخزانات الزهراني في جنوب لبنان، حيث استدعي وخضع للتحقيق وصدر بحقه قرار إبعاد عن الأراضي السورية. ولكن، نتيجة لبعض التدخلات، ألغي القرار وعاد أبو عمّار لممارسة عمله كالسابق في الأراضي السورية"، كما تروي تفاصيل عن حادثة اعتقال المخابرات السورية أبو عمّار وأبو جهاد في دمشق. وبعد "أكثر من ثلاثة أشهر ونصف الشهر، خرج أبو عمّار وإخوانه من السجن، ولكن بشرط ألّا يبقى في الأراضي السورية، وطُلب منه المغادرة فوراً". وحين غادر إلى جنوب لبنان مع مجموعة من رفاقه اعتقلتهم مخابرات الجيش اللبناني. وبعد تدخلات شخصيات لبنانية وعربية أفرج عن أبو عمّار والمجموعة التي كانت معه، وعاد معهم إلى دمشق بعدما سمحت له السلطات السورية بذلك، ليتابع عمله من جديد، لكن قرارات أخرى اتُخذت ضد عرفات لدى عدم امتثاله لقرارات القيادة السورية في لبنان في منتصف السبعينيات والثمانينيات، وخصوصاً بعد عودته إلى مدينة طرابلس اللبنانية، "وتحالفه مع قوات شعبية هناك برغم قرارات دولية وإقليمية مجحفة بإبعاده عن لبنان، وقرارات سورية بدعم جهات لبنانية وفلسطينية معارضة لعرفات ولخليل الوزير ومحاولات حزب البعث السوري الاستيلاء على حركة "فتح".
وترد في مذكرات انتصار الوزير تفاصيل كثيرة عن هزيمة حرب حزيران/ يونيو 1967، والمؤتمر الثاني لحركة فتح، وأحداث أيلول/ سبتمبر الأسود من عام 1970، ثم المؤتمر الثالث لفتح في سبتمبر 1971، وعن منظمة التحرير والعمل الفدائي في جنوب لبنان، واغتيال إسرائيل أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر في 10 نيسان/ إبريل 1973، والاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، والحرب التي شنتها قوات نظام الأسد الأب وما عُرف باسم فتح الانتفاضة في طرابلس ضد حركة فتح، ومغادرة لبنان إلى الأردن ثم إلى تونس.