في تسعين زيد حمزة
يُشهر الطبيب الأردني المخضرم، وزير الصحة الأسبق، صاحب الرأي، زيد حمزة، قبل أيام، بلوغَه عامَه التسعين. وفي مقالٍ نشره، في المناسبة، يلحّ الكاتب المثقف في رداء الطبيب الأبيض، على ما يوصَف، على التوازن في نوعية الغذاء وعدم الإفراط في كمّيته، وممارسة الرياضة اليومية، سيّما من تقتضي أعمالُهم قلة الحركة والجلوس مددا طويلة. ولا ينسى أن يتذكّر الناس، قبل فوات الأوان بحسب تعبيره، أن "التدخين سمٌّ مُمرِضٌ فقاتلٌ حتما، رغم أن الحكومات في ادّعائها مكافحته لا تأخذ ذلك مأخذ الجدّ". ومعلومٌ عن زيد حمزة أنه أحد عُتاة أعداء التدخين. وفي كتاب مذكّراته "بين الطب والسياسة" (أمانة عمّان الكبرى – مديرية الثقافة، عمّان، 2010، 2011، 2016)، يروي إن الملك الحسين أبلغه مرّة إنه يعاني من صداعٍ وآلامٍ في الجبهة بسبب التهاب الجيوب الأنفية، فقال له إن التدخين يزيد هذا سوءا. وعندما يحكي عن مرض الملك بالسرطان في المرّة الأولى العام 1993، يذكُر إن التدخين أحد أسبابه، وإنه حاول، لمّا كان وزيرا للصحّة، أن يثني الملك عنه، ونجح مؤقتا، وبعث إليه يومَها رسالة تهنئةٍ، ونشرها في الصحف المحلية، ليكون الملك قدوةً للأردنيين في الإقلاع عن التدخين، وتحمّست منظمة الصحة العالمية لإجراء مقابلةٍ معه تبثّ عالميا لتشجيع الناس للاقتداء به "غير أن الملك عاد إلى التدخين بعد ذلك للأسف، وبتشجيعٍ من أطبائه المدخنين، وأحدهم اختصاصي بالقلب".
ينكتب هذا المقال صدورا عن إعجابٍ مقيم بحيوية زيد حمزة، وحضوره الطويل في العمل العام، وأيضا لأنه "زميلٌ" في الصحافة، فهو كاتبٌ عتيقٌ في الصحف، وتتّصف مقالاته بالأناقة وبالتنوّع الواسع في موضوعاتها، فتلقاه الطبيب الذي يتقصّى في شأن صحّي وتوعوي، والذوّاق الذي يستطيب روايةً أو مسرحية أو فيلما (أعجبني عدم إعجابه بالفيلم الكوري "باراسايت" الذي فاز بأوسكار 2020). وربما هي صفته رجل علمٍ جعلته شديد الحرص على دقّة عبارته ومفردته، وعلى وضوح فكرته. ولعل تواصله منذ عقود مع شرائح متنوعة، طبيبا يداوي المرضى في عيادته الخاصة وفي المستشفيات وفي منازلهم، أصّل فيه تلك البساطة الضافية، والعميقة غالبا، وهو يطرح فكرته، إنْ في حديثه عن أغنية محمد عبد الوهاب "يا ورد من يشتريك"، أو في دفاعه عن صلاحيات وزارة الصحة، أو انتقاده المهووسين بكل ما هو غربي من نظم وأساليب إدارية (ينعت النظام الصحي الأميركي بالسوء)، أو عن كتابٍ قرأه ظنّه ممنوعا، أو عن مرسيدس بارشا زوجة غابرييل ماركيز، أو عن المقاومة الفلسطينية والتطهير العرقي الإسرائيلي، أو عن صيغ التأمين الصحّي، إلى غيرها من موضوعاتٍ لا حدود لتنوّعها، يجد صاحب مشروع مراكز الصحّة الأولية في الأردن نفسَه مدفوعا بأن يعبّر عن فكرةٍ لديه في خصوصها.
ومن كثيرٍ بالغ المؤانسة والإمتاع في كتاب "بين الطب والسياسة" أنه جاء على وقائع نجاح وفّق فيها الكاتب، أول أردني (مدني) يحوز شهادة اختصاص في الأنف والأذن والحنجرة، ووزيرا للصحّة صاحب رؤية ومشروع، وعلى وقائع الإخفاق، في منافسته على منصب نقيب الأطباء الأردنيين مثلا، وإن فاز بعضوية مجلس النقابة، وفي انتخابات مجلس النواب في 1989، وإذ يكتب إنه تقبّل الخسارة بروح رياضية، إلا أنه جاء على مسؤولية آخرين في فشله ذاك، الأمر الذي تبدّى أيضا في ترشّحه لرئاسة حزبٍ كان أمينَه العام مؤقتا، ثم أخفق، فلم يوفر مؤسّس الحزب، عدنان أبو عودة، من النقد والانتقاد. وفي موضوع آخر، تنظيمي مؤسّسي في الشأن الصحي العام، كان شديد النقد للدكتور داود حنانيا. ولكنه لم يأت على أي اسم بغير احترام أو تقدير لجهد أدّاه. وفي الأثناء، ظلّ يؤكّد على سمْتٍ "يساري تقدّمي" فيه، وهو الذي مال، في بواكير شبابه، إلى الماركسيين، سيما إبّان دراسته الطب (والتوجيهي قبلها) في مصر التي غادر إليها في 1984. وجاء الفصل في الكتاب عن تلك المرحلة شائقا، سيما عند حديث زيد حمزة عن صلاته المبكّرة مع بعض كتّاب مصر، إحسان عبد القدوس ويوسف إدريس وغيرهما، ونشاطه في رابطة الطلبة الأردنيين، وتعرّفه الطفيف إلى رئيس رابطة طلبة فلسطين (سمّاها خطأ اتحاد طلبة فلسطين)، ياسر عرفات. وظلّ ناقدا للإخوان المسلمين، ثم غير معجبٍ بصدّام حسين، ومهجوسا بأن لا يكتفي بصفته طبيبا في عيادة ومستشفى، فصار له موقعٌ طيبٌ بين نخبةٍ أردنيةٍ، مجتهدةٍ وصاحبة إسهام ..
أطال الله عمر الدكتور زيد حمزة ومتّعه بالصحة.