في تشخيص تراجع فرنسا وأوروبا
تحدّث محافظ الشُّرطة السّابق للعاصمة باريس، لالمان، وبعده الرّئيس ماكرون، مؤكّداً كلامه، بطريقة ضمنية، عن الأحداث التي تشهدها فرنسا، واصفاً المجتمع الفرنسي بالمجتمع المتحوّل إلى الحالة العنفية، حيث أضحى الفرنسي، أيّاً كان، وأيّاً كانت طبيعة المخالفة التّي يكون قد ارتكبها، يعترض ويرفض الامتثال للأوامر، وهي الحالة التي تزداد امتداداً وقد تكون، في مقبل الأيام، أسوأ ممّا وقع في أثناء احتجاجات السُّترات الصّفراء.
يمكن النّظر إلى هذا التّحذير على أنّه إنذار بفوضى قد تتمدّد لتنتشر في طول فرنسا وعرضها، لأنّ لالمان، نفسه، أضاف أنّ الأسباب متوفّرة، سواء في غلاء المعيشة والتّضخُّم أو في قانون التّقاعد الذي سيتمّ البتّ فيه قريباً في الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، إضافة إلى حالة انعدام الأمن، وفق رؤى بعض من الدّاعين إلى يمينية متطرّفة أكبر في التعامل مع المهاجرين المسؤولين، في نظرهم، عن تلك الحالة من انعدام الأمن، ليكون المشهد، في مجمله، صورة لفرنسا مقبلة على شتاء قارس، بسبب تداعيات شحّ الغاز وسعره. ويحتاج الأمر إلى الغوص أكثر لفهمه، بما له من تداعيات على الدّاخل الفرنسي والضّفّة الجنوبية للمتوسّط، بفعل عدد المهاجرين المغاربيين الموجودين هناك أو تفريغ شحنة تلك الفوضى في صورة أزمات وصراعات في الإقليم (غرب المتوسّط) أو في القارّة الأفريقية، بصفة عامّة.
بداية، بما لمحافظ الشُّرطة الفرنسية السّابق (أُقيل في مايو/ أيار الماضي على خلفية الأحداث التي شهدها محيط ملعب فرنسا يوم نهائي رابطة الأبطال الأوروبية من شغب وفوضى) من مصداقية في سرد الأرقام والتّعامل مع الإحصائيات، فقد تحدّث عن مسؤولية غير الفرنسيين (مهاجرين نظاميين وغير شرعيين، مغاربيين وأفارقة، بصفة خاصّة) بما نسبته نصف عدد الأعمال الإجرامية أو الجُنح المرتكبة في العاصمة باريس، أي أقل بكثير ممّا نسبته أقلام الإعلاميين والسّياسيين وأحاديثهما، من اليمين واليمين المتطرّف، هذه الأيّام، لتأليب الرّأي العام على خلفية ارتكاب إحدى المُتّهمات، جزائرية الأصل، جريمة شنعاء راحت ضحيّتها طفلة في سن 12 عاماً.
فرنسا مقبلة على شتاء قارس، بسبب تداعيات شحّ الغاز وسعره
طبعاً، لا يمكن القفز على تلك الإحصائيات، والقول، جزماً، إنّ ما يحدث في باريس، باعتبارها عيّنة عن باقي المدن الفرنسية الأخرى، يمكن القياس عليه لاتّهام المهاجرين أو غير الفرنسيين بالوقوف وراء حالة انعدام الأمن، لأنّ ذلك شأن يتمّ تضخيمه إعلامياً لأهداف سياسية، خصوصاً أنّ المسؤول عن التّضخيم وتأليب الرّأي العامّ ضد المهاجرين، بصفة عامّة، هو إيريك زمّور، وحزبه والموالون له، فكرياً وأيديولوجياً، الخاسر الأكبر في رئاسيات مايو/ أيار الماضي، أو في تشريعيات يونيو/ حزيران 2022، لا سيما مع توفّر الفتيل، وهو الأزمة الاقتصادية الخانقة وحالة التّذمّر من النّسبة العالية للتّضخّم وعجز الحكومة الفرنسية عن تجاوز حالة النّدرة لبعض المواد (البنزين، مثلاً) وعدم تمكّنها، من ناحية، من معالجة سلسلة من الإضرابات في أكثر من قطاع، واحتمال إقدامها على تحيّن فرصة الضبابية في الشّأن السّياسي لطرح مشروع قانون التّقاعد، المثير للجدل، من ناحية أخرى.
حتى لا نركّز الحديث إلّا عن فرنسا، فإنّ ظاهرة انعدام الأمن عمّت أوروبا وجعلتها من أمّهات مسائل، بل إشكالات صانعي القرار تترافق، بانتظام، مع صعود الشعبوية والتردُّد في إثبات الوجود في إطار الفوضى المعولمة وعدم قدرة الأوروبيين على مجاراة القوى العالمية في ساحة التّنافس الدُّولية، وعلى كلّ المستويات.
بالنّسبة للشعبوية، يمكن الحديث عن تحوّل سياسي وأيديولوجي تشهده أوروبا، بل العالم الغربي برمّته، بسبب الحاجة لتبرير المحور الصناعي – العسكري في تخصيص ميزانيات ضخمة للدّفاع (الصّناعات التّسليحية والتّسلُّح)، من ناحية، والحاجة الملحّة الأخرى، من ناحية أخرى، لتجاوز الكساد، في كلّ مرّة، في ميكانيزم النّظام الرّأسمالي ودوراته الطّبيعية بين ثنائية الكساد و النُّمو، إلى إثارة صراعات وأزمات تُبرّر ذلك التّسليح والصّناعات التّسليحية. وليس أفضل، في هذا المقام، من رفض الآخر وإرادة إبراز أنّ ثمّة نزاعات وصراعات ستتغيّر طبيعتُها من المتغيّر الاقتصادي إلى المتغيّر الثقافي/ الحضاري، وهو ما حمل، في الفترة التّالية، مسمّى الصّدام/ الصّراع الحضاري، وعلى إثره، سياسياً وأيديولوجياً، بدأ صعود التّيار اليميني، وحمل طابع الشّعبوية ليكتسح، حالياً، الفضاءات السّياسية في بلدان أوروبية كثيرة صعد فيها إلى الحكم (السُّويد وإيطاليا) وحصوله في بلدان أخرى على تمثيل كبير في المؤسسات التشريعية، خصوصاً في فرنسا، أخيراً، بقرابة مائة برلماني في الجمعية الوطنية.
يتمثّل العامل الثّاني في تراجع أوروبا في ساحة المنافسة الدُّولية، وتردّدها في إثبات وجودها على أكثر من صعيد، وهو ما أدّى إلى تداعيات اقتصادية وخيمة احتاجت معها أوروبا إلى تحالفات مع الأقوى (الصّين وروسيا، على وجه الخصوص)، وأوجد خلافات داخل الصف الغربي، وهو ما نراه، ماثلاً، في حلف الناتو، مثلاً، أوصل بعضهم إلى التّهديد بالانسحاب، على غرار ترامب في 2016 أو محاولة آخرين، فرنسا تحديداً، المبادرة بإنشاء ما بات يُعرف بالاستقلالية للدّفاع الأوروبي، ما جعل من الغرب فاعلاً من دون أهمّية، وأخرجها من هرمية التّنافس العالمي الحالي، وهو مؤشّر على أنّ النّظام الدُّولي، في تطوّره، سواء إلى ثنائية قطبية جديدة (روسيا وأميركا أو أميركا والصّين أو، أيضاً، أميركا والثنائي الصّين - روسيا)، أو تعددية قطبية (روسيا - الصّين - أميركا) هو بلا مكانة للأوروبيين، ما يصعّد، أكثر فأكثر، من تيّار الشّعبوية والحاجة إلى اللّعب على وتر انعدام الأمن والإبراز، الثّقافي والإعلامي، للظّواهر الخاصّة بكراهية الآخر أو الاختلافات الهوياتية، بل ما يُعرف، في هذا المقام، بنظرية الاستبدال الكبير، وهي ظواهر مبرّرة للسّياسات المعادية للأجنبي أو المهاجر، بصفة عامّة.
الفوضى في فرنسا، ويصار إلى تضخيمها إعلامياً وإلصاقها بالمهاجرين، بصفة خاصّة، محصّلة خيارات استراتيجية وأخرى اقتصادية لم تؤت أكلها
أدّى العاملان، مجتمعين، إلى الحالة الهجومية للتّيار اليميني وتبريره كلّ السياسات والصُّور النّمطية الجديدة بخصوص الآخر أو المهاجر. ويُلخّص تلك الفوضى القادمة التي تُعدّ، الآن، من مشاهد سيناريو التّبرير للوجود اليميني واليميني المتطرّف في المؤسّسات الأوروبية، وعلى المستوى الدّاخلي، وسترافق كلّ العمليات الانتخابية، بل ستحفّز تلك الخيارات السياسية، لأن المشهد الداخلي، كما نراه، كله فوضى أو صعود لوتيرتها، وأوروبياً هناك أكثر من قضية تعطّر صفو الاتّحاد التّكاملي، سواء على مستوى العلاقات الشّائكة، الآن، داخل الثُّنائي الألماني - الفرنسي أو بسبب بعض الخيارات الأُحادية لبعض البلدان الأوروبية، للخروج من مأزق الإشكالية الطّاقوية، بل الموقف من العقوبات الأوروبية على روسيا، على خلفية ما يجري من حرب في أوكرانيا، منذ فبراير/ شباط الماضي.
بالنّتيجة، الفوضى التي نراها تقترب من فرنسا، وهي موجودة، ويصار إلى تضخيمها إعلامياً وإلصاقها بالمهاجرين، بصفة خاصّة، هي محصّلة لسياسات وخيارات استراتيجية وأخرى اقتصادية لم تؤت أكلها وتحتاج، لتغيير البوصلة، إلى ما هو أجدى، وهو التّفكير الملي في تلك السّياسات، من ناحية، وتصحيح الأخطاء فيما يخصّ ذلك التحوّل الشعبوي الذّي لن يجدي مع استمرار اجترار الخطاب نفسه، والعمل بالسّياسات نفسها، من ناحية أخرى، خصوصا ًأنّ النُّخبة الفرنسية متعالية على الواقع، ولا تريد أن تؤمن بدورات التّاريخ وبأنّ على الغرب أن يصحّح مساره مع تحوّل ميزان القوى إلى مكان آخر قد يحمل، قريباً، اسم روسيا، الصّين، تركيا، إيران أو بلدان أخرى/ مناطق أخرى، إذا عرفت كيف تستفيد من الحالة المتردّية الحالية للأوروبيين، والغرب عموماً.