في تعقيد المسألة السورية
في تحول لافت لجغرافية الصراع في منطقة الشرق الأوسط، تصاعدت حدّة المعارك في سورية، بعد وقف القتال في الجبهة اللبنانية، إذ يسعى الفاعلون الدوليون، بمعية حلفائهم، إلى استثمار المتغيرات الإقليمية التي أفرزتها الحرب في لبنان لإعادة ضبط موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط، من خلال تقليص النفوذ الإيراني في سورية، في المقابل تتمرّس إيران وحليفها الروسي لثبيت مواقعهم في جغرافية باتت ساحة لصراع دولي متعدد الأقطاب.
تتأصل تعقيدات المسألة السورية لا من حيث مفاعيل التوترات الطائفية التي بنى عليها نظام بشّار الأسد آلته القمعية، وعزّزت من بقائه في السلطة فقط، بل إفرازات الواقع الراهن الذي حوّل سورية إلى جغرافيا تتنازعها قوى دولية وإقليمية متنافسة تتوزع خريطة السيطرة على أراضيها، ما قيّد مفاعيل العامل المحلي في تقرير مصير سورية ومستقبلها، سواء النظام أو القوى المناهضة له، فإلى جانب روسيا، التي تحضر، لا طرفاً متدخّلاً فقط يدعم حليفه النظام السوري، بل لتسييج منطقة نفوذها في الشرق الأوسط، تحتل سورية ثقلاً رئيساً في معادلة الهيمنة الإيرانية في الإقليم، فيما يتجذّر النفوذ التركي في سورية عمقاً استراتيجياً لأمنها القومي، والذي عزّزه دعمها الفصائل الموالية لها ضد النظام، الى جانب الوجود الأميركي الذي فرض سورية موقعاً أمامياً لتثبيت نفوذها الدولي مقابل تطويق نفوذ خصمها الروسي، وأيضاً لتقييد النشاط الإيراني، وتأمين حليفها الإسرائيلي من أي تهديداتٍ تطاولها من الأراضي السورية. يضاف إلى ذلك، وهو الأهم، أن الحرب الأهلية التي فجرها قمع النظام حوّل سورية إلى مسرح عملياتي لإسرائيل التي، إلى جانب احتلالها هضبة الجولان، يشكل إضعاف إيران وحلفائها في سورية ركيزة في استراتيجيتها الأمنية في الإقليم. ومع مشروعية مطالب إسقاط النظام، فإن تباين أجندات قوى المعارضة وتعدّد ولاءاتها وفقدانها قرارها الوطني إلى حد كبير، تماماً كالنظام السوري، أدّى إلى فرض إرادة المتدخّلين في إدارة الأزمة السورية وتوجيهها وضبطها. ولذلك، محاولة تغيير الشرط السوري في الوقت الحالي فرضتها التحوّلات الإقليمية التي أنتجتها حرب الكيان الإسرائيلي في لبنان.
تتشابك وتتعدد نتائج الحرب الإسرائيلية في لبنان على الجبهة السورية، لا ساحة إسناد للمقاومة الإسلامية، بل منطقة نفوذ نشطة لإيران، فإلى جانب ضرب ثقل النفوذ الإيراني في الإقليم، بعد الخسائر العسكرية والبشرية التي مني بها حليفُه حزب الله، فإنها شلت، إلى حد كبير، قدرة حزب الله على إسناد حليفه في سورية، كما أنه، وبموازاة هجمات الكيان الإسرائيلي على حزب الله في لبنان، طوال عام، استهدف قيادته الميدانية في سورية، وقيادات الحرس الثوري الإيراني، أفضى إلى زحزحة موازين القوى التي ظلت مستقرّة في سورية لصالح النظام، وهو ما استثمرته جبهة تحرير الشام في هجومها على مدينة حلب، والسيطرة على منطقة إدلب. إلى ذلك، نجحت إسرائيل، وعبر إدارتها الجبهة اللبنانية، في فرض نتائجها على المعادلة السورية، إذ إنه وبالإضافة إلى أن تصعيد القتال في سورية يعني خفض مستويات المخاطر التي تواجهها عبر انتقال الصراع مع حزب الله وإيران إلى سورية، أي بعيداً عن عمقها، فإن استمرار انزلاق إيران في معركة عسكرية لدعم حليفها السوري يشتت موارده، فضلاً عن استثمار تصعيد القتال في الساحة السورية بتنفيذ هجمات طاولت مواقع حزب الله الحدودية مع لبنان ومن ثم توسيع حالة الإرباك العسكري لخصومها وضرب خطوط الإمدادات، ومن ثم التأثير على موازين القوى في سورية، والبناء عليه لتثبيت اختلال موازين القوى لصالحها، وربما المضي بتفعيل استراتيجية جديدة لاستهداف مناطق أخرى لنفوذ إيران في الإقليم. في المقابل، إضعاف إيران في لبنان يعني إضعافها في سورية، ومن ثم يصب في صالح تركيا، فبعيداً عن مزاعم دعم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزّة، فإن التنافس على الهيمنة في الإقليم، وأيضاً التناقض الإيديولوجي مع إيران ظل يغذّي تدخلاتها العسكرية في سورية لدعم حلفائها المحليين، ومع أن النظام التركي لم يتبن رسمياً دعم معارك الفصائل ضد النظام السوري، فإن أي انتصارات على الأرض تعني تعزيزاً لنفوذه.
تتضمّن معادلة الدفاع عن نظام بشار الأسد بالنسبة لروسيا حماية مصالحها الاستراتيجية في سورية، وتثبيت هيمنتها قوة دولية في منطقة الشرق الأوسط
الدفاع عن سورية دفاع عن الخط الأمامي لنفوذ إيران الإقليمي، ومن ثم فإن تغيير المعادلة في سورية أو إرباكها يشكّل تهديداً جوهرياً لإيران، إلى جانب الأهمية الاستراتيجية لسورية ساحة ترسم معادلة تحالفها مع روسيا، وتكرس نظام عالمي متعدّد الأقطاب، بمعية الصين مناهض لأميركا وحلفائها الغربيين. وفي حالة إيران أيضاً، فإن سورية الرسمية منضوية في محور الممانعة، أي القوى المناوئة لإسرائيل. ومع أن النظام السوري حيّد نفسه، منذ بدء حرب الكيان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وأعاد تطبيع علاقته مع الدول العربية، فإن هيمنة إيران وحزب الله على المعادلة السورية فرضها طرفاً في معسكر المقاومة الإسلامية، وإسناد الجبهتين اللبنانية والفلسطينية عبر شن هجمات ضد إسرائيل، ومن ثم فإن تحريك الجبهة السورية، وفي هذا التوقيت، يعني استهداف مركز حسّاس للنفوذ الإيراني، كما أن استنزاف مقاتلي حزب الله في لبنان، بعد الحرب الإسرائيلية، يفرض على إيران عبء إسناد نظام الأسد، وإمداده بمقاتلين من الحرس الثوري، وأيضاً من شبكة حلفائها في المنطقة، إلى جانب أن هذه الإكراهات، وفي مرحلة حسّاسة بالنسبة لإيران، فإن التصعيد في سورية، بعد الحرب في لبنان، يضيف فاتورة جديدة مكلفة من الخسائر من استنزافها عسكرياً إلى توجيه مواردها أو موارد حلفائها للدفاع عن نفوذها في سورية. وإذا كان سعيها إلى وقف الحرب في لبنان فرضته حساباتها الإقليمية لخفض التصعيد مع إسرائيل، ومحاولة استقراء المزاج الدولي مع قرب انتقال السلطة في البيت الأبيض، فإن ضرورة التهدئة في سورية لم تنضج بعد، وخاضعة لشروط القوى الدولية ومصالحها في إدارة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم تختلف الحالة السورية عن الحالة اللبنانية، من حيث تعقيداتها، كذلك موقعها في معادلة الصراع مع إسرائيل، ومع أن إيران ستخوض كالعادة معركتها للدفاع عن نظام بشّار الأسد، إلى جانب المراهنة على القوة العسكرية لحليفها الروسي لاستعادة المناطق التي سيطرت عليها فصائل المعارضة، فإن تعدّد القوى الدولية وتناقض مصالحها يجعلان إيران هي الأخرى خاضعة لتقاطعات هذه المصالح وافتراقها في إدارة الملف السوري، والتي تعني، في حال وجود ضوء أخضر دولي للقضاء على نفوذها في سورية، دخولها في تحدٍّ حقيقيٍّ بفقد أهم ساحة نفوذ خارج مجالها الحيوي بعد لبنان.
تغيير المعادلة في سورية أو إرباكها يشكل تهديداً جوهرياً لإيران
إلى ذلك، تتضمّن معادلة الدفاع عن نظام بشار الأسد بالنسبة لروسيا حماية مصالحها الاستراتيجية في سورية، وتثبيت هيمنتها قوة دولية في منطقة الشرق الأوسط. لذلك، تغيير موازيين القوى في الساحة السورية، وإسقاط النظام السوري استهداف لمصالحها، كما يضر بتحالفها الاستراتيجي مع إيران التي تدعمها في الجبهة الأوكرانية، عسكرياً وسياسياً. ولذلك تقود روسيا معارك إسناد قوات الأسد واستهداف الفصائل السورية في حلب وإدلب، ومع أن تصعيد القتال في سورية، مع استمرار حربها في أوكرانيا، يشكّل ضغطاً عسكرياً على روسيا، فإن الدفاع عن حليفها في سورية يعزّز من استراتيجية حماية حلفائها التي تراهن عليها، لتعزيز موقعها في نظام عالمي متعدّد الأقطاب، ومن ثم جذب حلفاء جدد. ومن جهة ثانية، الاستمرار في إسناد قوات حليفها شمال غربي سورية، إلى جانب التعويل على قنوات التفاوض مع تركيا، الطرف المؤثر على الفصائل المسلحة الرئيسية لخفض الصراع، ومن ثم تجنّب مخاطر انكشاف حليفها يظل الخيار المثالي لروسيا في الوقت الحالي، إلا أن فرض معادلة جديدة في سورية ضد مصالحها قد يدفعها إلى تبنّي خيارات تصعيدية وتحريك أوراق أخرى.
في الأخير، ما يحدث في سورية لا يبقى في سورية، فإلى جانب استمرار موجات العنف التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، فإن تقاطع مصالح القوى الدولية والإقليمية وافتراقها وتناقضها يضيّق من أي خيار وطني يلبّي مصالح السوريين على المدى البعيد، فضلاً عن استعادة دولتهم واستقلالها، إلى جانب أن نتائج الحرب في سورية، ومع أن من المبكّر التكهن بمساراتها، ستترتب عليها تداعيات جوهرية على الفاعلين الدوليين والإقليميين، وبالطبع على إيران وحلفائها في المنطقة، بما في ذلك جبهات المقاومة. وبعيداً عن الخيارات التي سيلجأ إليها الخصوم والحلفاء لتثبيت نفوذهم في سورية، فالأكيد هنا أن سورية، وقبلها لبنان، وأيضاً في غزّة من يخسر هم المدنيون الذين يواجهون الموت، ومشقّة النزوح، وكلفة حياة غير آمنة.