في تفاصيل مشهد أردني: الإصلاح والتشكيك
يتعرّض الأردن، بحسب ما كشف عنه، أخيرا، رئيس المركز الوطني للأمن السيبراني، المهندس أحمد ملحم، إلى هجمات إلكترونية من جهات مختلفة، أفراد ودول ومجموعات إرهابية، وبلغت الهجمات خلال العام الماضي 897 هجوماً استهدفت عدّة مقرات ومنشآت ومراكز حسّاسة. .. وجرى هذا التصريح الأمني بعد كشف شخصيات أردنية عديدة عن اختراق أجهزتهم الخلوية عبر برنامج بيغاسوس الذي طوّرته شركة "إن إس أو" الإسرائيلية. وقد تزامن هذا كله مع نشر صحف غربية ومواقع ومنصّات شخصية لناشطين في الخارج لجملة تصريحات ومواد صحافية عن الأردن وثروة الملك عبدالله الثاني وحساباته البنكية في الغرب، والتي رد عليها الديوان الملكي بأن أصلها يعود لما آل إلى الملك من ثروة أبيه الملك الحسين، طائرة كبيرة ورثها عنه، بالإضافة إلى أملاكه الشخصية، كما أن ما يُصرف من موازنة الديوان على المبادرات الملكية وما يأتي من منح خاضع للرقابة والتدقيق.
وجاءت هذه التصريحات في ظلّ الحديث الداخلي الأردني عن مسألة الإصلاح وتحديث المنظومة السياسية، التي أقرّ منها البرلمان الأردني التعديلات الدستورية، وهو يناقش اليوم قانوني الأحزاب والانتخاب المُحالين من الحكومة إليه. وخرج الملك عبدالله، في أكثر من مناسبة، مؤكّداً على المضي بالإصلاح، وأطلق أيضًا دعوة إلى عقد ورشة وطنية للإصلاح الاقتصادي ستبدأ أعمالها قريبًا.
تصاعد في النقد، ولا حوار مقنعا، ولا معارضة منسجمة مع واقع الدولة، ولا موالاة لديها القدرة على الدفاع عن المنجزات
على مستوى النخب والمعارضة والرافضين للإصلاح، يرتفع النقاش والنقد السياسي الأردني داخليًا، من باب الدعوة إلى ما هو أبعد من التحديث السياسي، وهو ما عبر عنه المعارض ليث شبيلات بالدعوة إلى تفويض شعبي لاسترداد مال الشعب، وهي دعوة وشعار لا يخلوان من الشعبوية. وتتناغم دعوة شبيلات، الذي يؤكد على عدم جاهزيته صحيًا للاعتقال في تصريحاته، مع مقولات بعض ممن يرون أن الدولة تسير اقتصاديا إلى الأسوأ، في مقابل من يرون أن تلك الدعوة استمرارية لشعارات الحراك الوطني الذي بدأ عام 2011 واستغرق عقداً، من دون إنجازات كثيرة على المستوى الشعبي، لكن اللافت أنّ لا أحد يحاور ويرد على مقولات المعارضة أو من وصفوا بالمشكّكين بجدوى الإصلاح، ومنهم بعض قياداتٍ خرجت من رحم الدولة ومن خلال خبراتهم في المواقع العامة.
تبدو حالة الأردن، حاليا، حرجة، تصاعد في النقد، ولا حوار مقنعا، ولا معارضة منسجمة مع واقع الدولة، ولا موالاة لديها القدرة على الدفاع عن المنجزات، وثمّة اتهامية عالية عند من لا يرون لأصواتهم استجابة، هي حالة من اللاثقة شبه قائمة، عنوانها صراع الإرادات في بلدٍ لا يملك فيه أي تيار فكري أغلبية برلمانية، ولا حياة حزبية ناجزة.
في ظلّ هذا المشهد، يخرج وزراء سابقون وموظفون وقادة مجتمع، بعضهم من موروثات الحكومات السابقة، ومن خلفيات عسركية وبيروقراطية، متقاعدون (وزراء ونواب سابقون ووجهاء) ينوون تأسيس أحزاب، ويدعون الشباب إلى الالتفاف حولهم، بغية الاستجابة لما يريده الملك من تحديث وإصلاح. هؤلاء القادة الذين يعتقدون أن الوطن انتدبهم لإنجاز التحديث، ربما فهموا مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسة بشكل مغاير لما يجب أن تولد عليه الأحزاب والتيارات السياسية الديمقراطية، وهي في الحالة الراهنة أردنيا محفوفة بمجازفة كبيرة.
موجبات الفهم الشعبي للتغيير محاطة اليوم بموجة من الاستهدافات للأردن، وخطاب تشكيك بأي فرصة للتغيير
فعليا، لا كتلة حاسمة مع أي حزب أو مجموعة شخصياتٍ تنوي الانخراط بالحزبية، فالشباب الذين يشكّلون أكثر من نصف عدد المجتمع متروكين لأوجاعهم في البطالة والفقر، واليوم تريد النخب المتحفزة للتحزيب استخدامهم جمهورا. ومع أن مخرجات اللجنة الملكية للإصلاح، المضمونة بضمانة الملك، كانت قد أوصت بقانون يعزّز الأحزاب البرامجية، إلا أنّ المطروح اليوم أحزاب كما يقال "على الكبسة"، لا برامج لها ولا امتدادات شعبية. وهذا لا يعني أن كل من يتبنّى خيار الحزبية السياسية متهم في نيته، فهناك تيارات سياسية وأحزاب على الأرض من وطنية وإسلامية وليبرالية وقومية، لكن لدى هذه الأحزاب والتيارات واقعها الصعب، وتشهد نضوبا في منتسبيها، مع صعوبة تعزيز حضورها في مجتمعٍ اعتاد الصيغة الماضوية التقليدية للدولة الريعية، كما أن ذلك الواقع لا ينفي وجود رجالات دولة وخبرات وظيفية سابقة تملك صدقية وخوفا مشروعاً على المستقبل، وهي صادقة في نقدها.
في ظلّ هذا الواقع، يسأل كثيرون: ما الحل في الأردن لتعزيز الديمقراطية والحزبية والحريات؟ يبدو الأمر قابلاً للنقاش هنا، أن موجبات الفهم الشعبي للتغيير محاطة اليوم بموجة من الاستهدافات للأردن، وخطاب تشكيك بأي فرصة للتغيير، كما أنها لا تثق بكلام النخب المجرّبة أو التي تراها شريكة في صناعة عجز الراهن والأزمات الموروثة.
لطالما تحدّث العاهل الأردني عن وجوب التحديث، ولطالما كانت هناك قوى شد عكسي وقادة محافظون يرون أن أي تغيير يستهدف حضورهم وبقاءهم، لكن الراجح اليوم أن الأردن الممكن على بوابة التغيير المحتوم، هذا التغيير لا يمكن له أن ينجح ويستقر إلّا بحدوث مصالحة مع الماضي أولًا. وثانياً، تغيير العقليات والذهنيات نحو انزياحاتٍ جديدة تؤمن بدولة القانون والمواطنة وتقرّ بانتهاء دولة الماضي. وثالثاً، إيجاد حلول اقتصادية فاعلة، وتعزيز الحريات، ووقف تزوير الانتخابات والتلاعب فيها أو في نتائجها، وهو أمر معترف به رسمياً.
هناك حاجة لبناء استراتيجيات وطنية للاستجابة والرد على المطروح من المعارضة بحوار معقول وبحقائق واضحة
في السياق التداولي للتاريخ، طوى الأردن اليوم مئويته الأولى، ودخل مئوية جديدة، فيها تحدّيات وصعاب كثيرة، ولعلّ من أبرزها ما يثار من شكوك بشأن جدّية الإصلاح، وما يبث عن الأردن عبر منصّات المعارضة من تهم جزافاً، وما تحاول أن تُحدثه الهجمات التي تستهدف الأردن. وما تردّده المعارضة التي تؤيد في خطاباتها نماذج راهنة وماضوية من الاستبداد العربي، لا بل تدافع عنها أحياناً، وهذه المعارضة التي تتبنّى خيارات اللوذ بالشارع ومناغمته شعبويا، تتهم الملك في ثروته التي ورثها من والده، وليس من مشاركة الناس أموالهم، ولا تدرك أن الملك وارث حكمه من سلالة محترمة، ولم يأت على الدبابة. .. ولكن تبقى هناك ملفات وطنية ذات طابع مأزوم، ومنها ملف الطاقة الذي لا يجد الناس ما يفسره من دون حساب المسؤولين عنه، وهناك ملفا البطالة والفقر، ويضاف إليهما تحدّي المياه.
صحيحٌ أن تلك ملفات موروثة، لكن في حالة الحديث عن الإصلاح والتحديث السياسي والمواقف المتباينة منه، يبدو أن هناك حاجة للتفكير أكثر في بيان أسباب التشكيك والرفض لدى بعضهم، كما أن هناك حاجة لبناء استراتيجيات وطنية للاستجابة والرد على المطروح من المعارضة بحوار معقول وبحقائق واضحة.